الثلاثاء، 11 فبراير 2020

الشَّيْبُ .. تعريفه وأحكامه


الشَّيْبُ .. تعريفه وأحكامه

الشيب هو ابيضاض شعر الرأس مع مرور العمر، حيث يبدأ الشعر الأبيض بالظهور في منتصف الثلاثين أو الأربعين، ثم يزداد الشيب على مدى العشرين سنة التالية، ومع بلوغ الإنسان سن الـ 60 إلى 70عاماً يشيب الشعر كله تقريباً، وعلمياً سبب عملية الشيب مرتبط بنقص مادة الميلانين نتيجة لقلة عدد الخلايا الصانعة لها، وهذا أمر طبيعي مرتبط بانتهاء العمر الزمني لها، مثلها مثل خلايا الجسم الأخرى.
والحكمة من ظهور الشيب هو لَفْتُ انتباه الإنسان إلى أن عمره التقريبي يقترب من نهايته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمارُ أمتي ما بينَ الستِّينَ إلى السبعينَ وأقلُّهم من يجوزُ ذلِكَ" أخرجه الترمذي وصححه الألباني، فهذا العمر التقريبي للإنسان.
ولقد أحسن الشاعر حين أنشد:
تُؤَمِّلُ بَعْدَ شَيْبِكَ طُولَ عُمْرٍ ... أَلَيْسَ الشَّيْبُ إِحْدَى الْمِيتَتَيْنِ
وقال عبد العزيز بن مروان: "من لم يتعظ بثلاث لم ينته بشيء: الإسلام، والقرآن، والشَّيْب".
وقال أبو العتاهية:
مَنْ لاحَ في عارِضِهِ القَتيرُ ... فَقَد أَتاهُ بِالبِلى النَذيرُ
والقتير هو: الشيب، والبِلى: يقصد الموت.
ويقول أيضاً:
لَيسَ عَلى ذي النُصحِ إِلّا الجَهدُ *** الشَيبُ زَرعٌ حــانَ مِنهُ الحَصدُ
وقد يأتي ظهور الشعر الأبيض مبكراً، ويسمى بـــــ "الشيب المبكر" دون سابق إنذار قبل سن الثلاثين، وتحدث هذه الظاهرة نتيجة لعدة أسباب:
مثل العامل الوراثي، كذلك العوامل النفسية وخاصة الانفعالات الشديدة والمفاجئة مثل الخوف الشديد أو الحزن الشديد أو الإصابة بالهموم، وأيضاً قد يظهر الشيب المبكر لسوء التغذية، كذلك للإصابة بالأمراض العضوية خاصة أمراض الجهاز الهضمي وأمراض اختلال وظائف الغدة الدرقية، إذا كانت متكررة دوراً كبيراً في الإسراع بظهور الشيب المبكر، إضافة إلى بعض الالتهابات المستمرة في الجسم مثل التهاب اللثة والأسنان المتكرر، وكذلك التهاب فروة الرأس الدهنية.. إلخ.
ولا يوجد علاج نهائي للشيب فعندما تبدأ عملية الشيب فلا يمكن إعادة اللون إلى الشعر مرة أخرى، ولكن من الممكن الإبطاء بعملية الشيب أو تأخير حدوثه وذلك في حالة الشيب المبكر فقط، ويكون ذلك بالسعي لتجنب الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الشيب المبكر والعلاج المبكر لها[1].
ولذا قال الشاعر آيساً من رحيل الشيب:
يا خاضب الشيب الذي      في كل ثالثة يعود
إن الخضاب إذا مضى         فكأنه شيب جديد
فدع المشيب وما يريد          فلن تعود كما تريد
وتفرَّس العرب في أماكن ظهور الشيب وعلاقة ذلك بشخصية مَن ظهر فيه، فقد ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: "شَيْبُ النَّاصِيَةِ مِنْ الْكَرَمِ، وَشَيْبُ الصُّدْغَيْنِ مِنْ الْوَرَعِ، وَشَيْبُ الشَّارِبَيْنِ مِنْ الْفُحْشِ، وَشَيْبُ الْقَفَا مِنْ اللُّؤْمِ"[2]. والله أعلم بحقيقة ذلك !
* * *
ومما يذكر في كراهية المرأة للشَّيب أن رجلاً أشمط[3] مَرَّ بامرأة عجيبة في الجمال، فقال: يا هذه إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه، وإلا فأعلِمينا.
فقالت كأنك تخطبني؟!
قال: نعم.
فقالت: إن فيّ عيبا
قال: وما هو؟
قالت: شَيْبٌ في رأسي!
فثنى عِنان دابته!
فقالت: على رِسْلِك، فلا والله ما بلغتُ عشرين سنة، ولا رأيتُ في رأسي شعرةً بيضاء، ولكنني أحببتُ أن أُعلِمَك أني أكره منك مثل ما تكره مني!
* * *
ومهما خضب الرجل شعره فإن هذا الخضاب بمثابة "بَـــنْجٍ" مؤقت يُسَكِّنُ آلام المشيب، ثم يعود أنينه مرة أخرى!
قال عقبة بن عامر -رضي الله عنه-:
نُسَوِّدُ أَعْلَاهَا وَتَأْبَى أُصُولُهَا ... وَلَا خَيْرَ فِي الْأَعْلَى إذَا فَسَدَ الْأَصْلُ
وقال الحسين بن علي -رضي الله عنه-:
نُسَوِّدُ أَعْلَاهَا وَتَأْبَى أُصُولُهَا ... فَيَا لَيْتَ مَا يُسَوَّدُ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ
* * *
أحكام الشيب الفقهية
اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الاختضاب (الصبغ)، وفي جنسه، فقال بعضهم: ترك الاختضاب أفضل، استبقاءً للشيب، وروي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن تغيير الشيب، ولكنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم -وهو الصواب-: الاختضاب أفضل؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ" متفق عليه.
ولحديث: "غيِّروا الشَّيبَ ولا تَشَبَّهوا باليَهودِ ولا بالنَّصارَى" أخرجه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح.
فهذه الأحاديث تدل على أن العلة في الصباغ وتغيير الشيب هي مخالفة اليهود والنصارى، وبهذا يتأكد استحباب الاختضاب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها.
تنبيه: قال الطبري: الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع، ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فالصحيح أنه لم يثبت عنه أنه اختضب؛ وذلك لأنه لم يكن في لحيته إلا القليل من الشيب حتى مات، فقد سُئِلَ أنَسٌ عن خِضَابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: إنَّه لَمْ يَبْلُغْ ما يَخْضِبُ، لو شِئْتُ أنْ أعُدَّ شَمَطَاتِهِ[4] في لِحْيَتِهِ. متفق عليه، وفي رواية قال: "لم يُشِنْه الشَّيبُ".
قال الشوكاني: "لو فرض عدم ثبوت اختضاب النبي صلى الله عليه وسلم لما كان قادحا في سُنِيَّةِ الاختضاب، لورود الإرشاد إليها قولا في الأحاديث الصحيحة".
وقد اختضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة في ذلك.
ويكون الاختضاب بالحناء، وبالحناء مع الكَتَم[5]، وبالوَرْس[6] والزعفران[7]، وبغير ذلك مما استحدثه العلم الحديث من أنواع الأصباغ.
وأحسنه ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: "إنَّ أحسنَ ما غيَّرتُم به الشيبَ الحناءُ والكَتَمُ" أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
فهذا الحديث يدل على أن الحناء والكَتَم من أحسن الأشياء التي يغير بها الشيب، ولا يعني أن الصبغ مقصور عليهما، بل يشاركهما غيرهما في أصل الحسن، لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال: اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتا.
ثم قد كان أكثرهم يختضب بِالصُّفْرَةِ، منهم ابن عمر وأبو هريرة، واختضب جماعة منهم بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وبعضهم بالزعفران، واختضب جماعة بالسواد، منهم عثمان بن عفان والحسن والحسين وعقبة بن عامر وغيرهم -وقيل لم يثبت عنهم الاختضاب بالسواد-.
قال الحكم بن عمرو الغفاري: دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر، وأنا مخضوب بالحناء، وأخي مخضوب بالصُفرة، فقال لي عمر: "هذا خضاب الإسلام"، وقال لأخي رافع: "هذا خضاب الإيمان".
واختلف الفقهاء في حكم الاختضاب بالسواد: فالحنابلة والمالكية والحنفية - ما عدا أبا يوسف - يقولون: بكراهة الاختضاب بالسواد في غير الحرب[8]، لحديث جابر أنه قال: جيءَ بأبي قحافةَ يومَ الفَتحِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : وَكَأنَّ رأسَهُ ثغامةٌ[9] فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: "اذهَبوا بِهِ إلى بعضِ نسائِهِ، فلتغيِّرهُ، وجنِّبوهُ السَّوادَ" أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
وللحنفية رأي آخر بالجواز، ولو في غير الحرب، وهذا هو مذهب أبي يوسف.
وقال الشافعية بتحريم الاختضاب بالسواد لغير المجاهدين، لقوله صلى الله عليه وسلم في شأن أبي قحافة: وجنبوه السواد، فالأمر عندهم للتحريم، وسواء فيه عندهم الرجل والمرأة.
وهذا هو الراجح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يَكونُ قومٌ يخضِبونَ في آخرِ الزَّمانِ بالسَّوادِ كحواصلِ الحمامِ لا يريحونَ رائحةَ الجنَّةِ" أخرجه أبو داود وهو صحيح.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (5/168): "التغيير بالسواد الخالص: لا يجوز، للرجال والنساء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (غيروا هذا الشيب واجتنبوا السواد)".
ويكره نتف الشيب لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وقال «إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ» أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما وحسنه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تنتِفوا الشَّيبَ؛ فإنه ما من مسلمٍ يشيبُ شَيبةً في الإسلامِ، إلا كانت له نورًا يومَ القيامةِ" وفي رواية: "كتبَ له بها حسنةٌ، وحطَّ عنه بها خطيئةً" أخرجه أبو داود صححه الألباني.
وقَصُّ الشيب له حكم النتف، إلا إذا أخذ من لحيته عموماً مقدار القبضة، لا بقصد تتبع الشعر الأبيض.
والنهي عن نتف الشيب لا يعني عدم صبغه؛ فإن الأحاديث قد جاءت مصرحة بالترغيب بتغيير الشيب بغير السواد كالحناء والكتم.




[1] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B4%D9%8A%D8%A8
[2] الآداب الشرعية 3/338
[3] هو من خالط بياض رأسه سواده.
[4] الشمط بياض الشعر
[5]  الكَتَم: بالتحريك نبات يستعمل في الخضاب، وفي صنع الحبر.
[6] الورس: بفتح الواو وسكون الراء، من الفصيلة البقلية، يزرع باليمن والهند: ثمرته قرن يغطى عند نضجه بغدد صفراء ويوجد عليه زغب قليل يستعمل في صبغ الثياب.
[7] هذه الأصباغ اليوم توجد عند العطَّارين.
[8] أما في الحرب فهو جائز إجماعا بل هو مرغب فيه.
[9] الثُّغامُ هو نَبْتٌ شَديدُ البياضِ زهرُه وثمرُه يُشَبِّهُ به الشَّيبَ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق