السبت، 15 فبراير 2020

شرح البقونية (12) الحديث الـمُعَنْعَن


الحديث الـمُعَنْعَن
13 - مَعَنْعَنٌ كَعَن سَعِيدٍ عَنْ كَرَمْ ... .....................
الحديث الـمُعَنْعَن: اسم مفعول من "عنعن" بمعنى قال: "عن، عن".
واصطلاحا: قول الراوي: "فلان عن فلان"[1].
اعلم أن طرق تحمل الحديث عن الشيوخ ثمانية، وهي: السماع من لفظ الشيخ، القراءة على الشيخ، الإجازة، المناولة، الكتابة، الإعلام، والوصية، والوجادة[2].
فيقول المحدث في السماع من لفظ الشيخ "سمعت فلاناً يقول كذا وكذا"، ويقول في القراءة على الشيخ "أخبرني فلان بكذا"، ويقول في الإجازة "أجازني فلان بكذا"، ويقول في المناولة "ناولني فلان بكذا"، ويقول في الإعلام "أعلمني فلان بكذا"، ويقول في الوصية "أوصى لي فلان بكذا"، ويقول في الوجادة "وجدتُ بخط فلان كذا"[3]، أو غيرها من العبارات التي يعتبرها العلماء أن لها حكم الاتصال بين التلميذ وشيخه.
لكن قد لا يقول الراوي تلك العبارات حينما يروي الحديث، ويضع مكانها عبارة محتملة "عن فلان"، ففي أي الطرق نعتبرها، ثم هل هو من المتصل أم المنقطع؟
فاختلف العلماء فيه على قولين:
قيل: إنه منقطع حتى يتبين اتصاله، وهذا القول مردود بإجماع السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول[4].
وقال الجماهير من أصحاب الحديث إنه متصل -هو الصحيح- لكن بشرطين، هما:
1- ألا يكون المعنعِن مدلسا[5].
2- أن يمكن لقاء بعضهما بعضا؛ أي لقاء المعنعِن بمن عنعن عنه، كأن يكون يعيش في زمن شيخه وفي بلده، أو تكون بينهما صلة قرابة.
ومثال الحديث الذي عنعنه مدلس:
أخرج ابن ماجه في سننه (4015) من حديث مَكْحُولٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى نَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: «إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ظَهَرَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا؟ قَالَ: «الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ، وَالْفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ، وَالْعِلْمُ فِي رُذَالَتِكُمْ».
مكحول الشامي أحد التابعين، أطلق الذهبي أنه كان يدلس، لذلك قال الإمام الألباني عن هذا الحديث: "ضعيف الإسناد لعنعنة مكحول".
واعلم أن مكحولاً ثقة كبير، يُقبل حديثه -على الصحيح- إذا قال: سمعت أو حدثني أو غيرها من العبارات الصريحة في السماع.
مسألة: حكم التدليس وفاعله:
التدليس ذمه أكثر العلماء وبالغ شعبة في ذمه، فقال: فقال: "لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس"، وقال: "التدليس أخو الكذب".
قال ابن الصلاح: "وهذا منه إفراط، محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير".
أما حكم من عرف به:
1 - فقال فريق من أهل الحديث: من عرف به صار مجروحا مردود الرواية مطلقا، حتى وإن بين السماع.
2 - وقال جمهور من يقبل المرسل: يقبل مطلقا، حكاه الخطيب.
3 - والأكثرون -منهم الشافعي وابن المديني، وابن معين وآخرون- على التفصيل: فما رواه بلفظ محتمل، لم يبين فيه السماع، فمرسل (أو منقطع) لا يقبل، وما بين فيه كسمعت، وحدثنا، وأخبرنا، وشبهها، فمقبول يحتج به.
واعلم أن في رواة الصَّحِيحين جماعة من المشاهير بالتدليس كالأعمش وهشيم وقتادة والثَّوري وابن عيينة والحسن البصري وعبد الرزاق والوليد بن مسلم وغيرهم، وما فيهما وفي غيرهما من الكتب الصَّحِيحة بعن محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى[6].
وجمع العلماء أسماء المدلسين وجعلوهم على مراتب، كما صنع ابن حجر في كتابه "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس"، فقال في مقدمة هذا الكتاب:
" هم [المدلسون] على خمس مراتب:
الأولى: من لم يوصف بذلك الا نادرا كيحيى بن سعيد الانصاري.
الثانية: من احتمل الائمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقِلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة.
الثالثة: مَن أكثر من التدليس فلم يحتج الائمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقا، ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي.
الرابعة: مَن اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد.
الخامسة: مَن ضُعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع.
وهذا التقسيم المذكور حرره الحافظ صلاح الدين [العلائي]".

مسألة: والتدليس أقسام:
تدليس التسوية: وهو: أن يسقط الراوي ممن فوق شيخه في الإسناد، كراو مجروح أو مجهول، أو صغير السن، ويحسن الحديث بذلك ويجوده، وهو شر صور التدليس، وفرع عن "تدليس الإسناد" السابق شرحه.
تدليس الشيوخ: أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً، فيغير اسمه، أو كنيته، أو نسبه، أو حاله المشهور من أمره؛ لئلا يعرف.
الأسباب الحاملة على تدليس الشيوخ:
1 - كون المغيَر اسمه ضعيفا، فيدلسه حتى لا يظهر روايته، عن الضعفاء، فهو شر هذا القسم.
2 - أو لكون شيخه صغيرا في السن.
3 - أو متأخر الوفاة حتى شاركه فيه من هو دونه في السن.
4 - أو سمع منه كثيرا، فامتنع من تكراره على صورة واحدة، إيهاما لكثرة الشيوخ.
5 - أو تفننا في العبارة.
تدليس الاستدراك: وهو أن يقول الراوي: "ليس فلان حدثنا، ولكن فلان" موهما أنه سمع منه، مثاله: ما نقل عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال: "ليس أبو عبيدة حدثنا، ولكن عبد الرحمن عن أبيه".
تدليس الصيغ: وهو أن يطلق الصيغة في غير ما تواطأ عليه أهل الاصطلاح، كأن يصرح بالإخبار في الوجادة أو بالتحديث في الوجادة.
تدليس السكوت: وهو أن يقول المدلس: "حدثنا" ثم يسكت قليلا ثم يقول: "فلان" وكأنه أسمع من عنده الصيغة وأسر اسم من سمع منه في أثناء سكوته، مثاله: وممن اشتهر بذلك عمر بن علي المقدمي، قال ابن سعد: " ثقة يدلس تدليسا شديدا يقول: سمعت، وحدثنا، ثم يسكت، ثم يقول هشام بن عروة والأعمش".
تدليس البلاد: قال ابن حجر: "ويلتحق بقسم تدليس الشيوخ تدليس البلاد، كما إذا قال المصري "حدثني فلأن بالأندلس" وأراد موضعا بالقرافة في مصر.
ومن أقسام تدليس الشيوخ: إعطاء شخص اسمَ آخر مشهور تشبيها، ذكره ابن السبكي في جمع الجوامع، قال: "كقولنا أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، يعني الذهبي تشبيها بالبيهقي، حيث يقول ذلك يعني به الحاكم".

ومن المؤلفات في المدلسين:
1-"التبيين لأسماء المدلسين" للخطيب البغدادي.
2-"التبيين لأسماء المدلسين" لبرهان الدين ابن الحلبي.
3-"تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس" للحافظ ابن حجر.
4-"أسماء المدلسين" للسيوطي.
5-"التدليس والمدلسون" لحماد الأنصاري، جمع فيه اسم 161 مدلساً.

مسألة: هل "أن" كـ "عن" في السند سواء؟ قولان:
الأول: أنهما سواء بالشرط المتقدم في العنعنة، وهو قول مالك بن أنس والجمهور.
الثاني: ليسا سواء، بل يكون منقطعا حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه، وهو قول أحمد بن حنبل والبرديجي[7].



[1] تيسير مصطلح الحديث ص107
[2] وسيأتي تفصيلها.
[3] أو غيرها من العبارات كما سيأتي تفصيله في طرق التحمل والأداء.
[4] انظر: "علوم الحديث ص 61" "شرح النووي على مسلم 1/ 128" "فتح المغيث 1/ 591"
[5] المدلس هو مَن يستر المدلِّس العيب الذي في الإسناد، وهو الانقطاع في السند، فيسقط المدلِّس شيخه، ويروي عن شيخ شيخه ويحتال في إخفاء هذا الإسقاط، ويحسن ظاهر الإسناد بأن يوهم الذي يراه بأنه متصل، لا سقط فيه. (تيسير مصطلح الحديث ص96).
[6] شرح الأثيوبي على ألفية السيوطي 1/170 وما بعدها.
[7] انظر: "التمهيد 1/ 26" "علوم الحديث ص 62" "شرح التبصرة 1/ 222" "تدريب الراوي 1/ 247"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق