الثلاثاء، 30 مارس 2021

عبادة التَّدَبُّر

 

عبادة التَّدَبُّر (1)

تتجلى أهمية التدبر في أن الله تعالى جعله الطريق لإدراك هداية القرآن، وتحصيل بركته العلمية والعملية، فقد نزل القرآن الكريم ليكون آية على صحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتبياناً لكل شيء.

فهذا يقتضي الإيمان به وحسن فهمه وتدبره، قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . لام الغاية والحكمة، فمن لم يأخذ حظه من التدبر والتفكر لن يأخذ حظه من بركته، والبركة من الكلمات الحبيبة التي تنشرح لها قلوب العباد، فإنها مرتبطة بالنماء والزيادة، والثبات والدوام.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل مدارسة القرآن هم أهل الرحمة، وعليهم تتنزل السكينة، وبهم تحف الملائكة، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، ‌وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».

 

تعريف التدبر:

التدبر في اللغة: هو التفكر، والتفهم، والنظر في عواقب الأمور، وما تؤول إليه.

ومعنى التدبر عند المفسرين: لا يختلف مفهومُ مدلولِهِ عن اللغة؛ قال الزمخشري: " تدبر الأمر: تأمُلُهُ، والنظر في أدباره، وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استُعمل في كل تأمل، فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه، وتبصّر بما فيه".

وقال الطاهر ابن عاشور: «وأصله أنه من النظر في دبر الأمر؛ أي: فيما لا يظهر منه للمتأمل بادِئَ ذي بدءٍ".

قال ابن القيم: «وتدبر الكلام أن ينظر في أوله وآخره، ثم يعيد نظره مره بعد مرة، ولهذا جاء على بناء التفَعُّل، كالتَّجرُّع والتفهم".

 

الفرق بين التدبر والتفسير:

التدبر بهذا يعني شيئاً غير تفسير ظواهر الآيات وشرح معناها؛ بل هو نوع من «التأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يَدْبُر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة؛ لأن من اقتنع بظاهر المتلو لم يحْلُ منه بكثير طائل".

ومما سبق نفهم أن التدبر: تأمُلٌ عقلي في معاني القرآن، فما كان من نحو: نقلِ لغة، وبيان سبب نزول، لا يُسمى تدبراً، وأنه يختص بما وراء الظواهر القريبة، فما كان شرحاً لظاهر اللفظ لا يُسمى تدبراً.

 

الفرق بين التدبر والتفكر والتذكر والتفسير والاستنباط:

معانيها قريبة، وفيها بعض الفروق الدقيقة:

التفكر: أكثر ما يرد التفكر في القرآن «في سياق النظر في خلق الله، والتأمل في بديع صنعه؛ كما في قوله {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أما التدبر فمختص بالقرآن وآياته».

التذكر: فهو استحضار الذهن ما كان يعلمه، فنسيه أو غفل عنه، التذكر على هذا من آثار التدبر، والتدبر سبب مفضٍ إلى التذكر؛ قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

التفسير: هو بيان المعنى بالنقل أو بالعقل، وباللغة أو بالخبر، والتدبر مختص بالجهد العقلي كما سبق.

الاستنباط: هو استخراج ما خفي المراد به من اللفظ، إذ التدبر أصل الاستنباط، فلا يمكن الاستنباط من النص قبل تدبره والتأمل في معانيه، والتدبر يعم العلماء وغيرهم، والاستنباط خاص بأولي العلم".

 

حُكْمُ التدبر:

دلت عبارات العلماء على وجوب التدبر لكتاب الله عز وجل لمن كانت له أهلية وقابلية للتدبر.

قال محمد الأمين الشنقيطي: "وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ ‌يَشْتَغِلْ ‌بِتَدَبُّرِ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَيْ تَصَفُّحِهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَإِدْرَاكِ مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهَا، غَيْرُ مُتَدَبِّرٍ لَهَا، فَيَسْتَحِقُّ الْإِنْكَارَ وَالتَّوْبِيخَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَاتِ -إِنْ كَانَ اللَّهُ أَعْطَاهُ فَهْمًا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى التَّدَبُّرِ-".

وقال الإمام القرطبي عند قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} قال: "دلت هذه الآية على وجوب التدبر في القرآن ليُعرف معناه".

وفي قوله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} قال الإمام ابن كثير: "وترك تدبره وتفهمه من هِجرانه".

وقال الحسن: "إن من كان قبلكم رأوه -القرآن- ‌رسائل ‌من ‌ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار".

 

فوائد التدبر:

1-اليقين بصدق القرآن وأنه حق لا ريب فيه.

2-تحصيل الهداية إلى الصراط المستقيم.

3-حصول الشفاء لما في الصدور.

4-مضاعفة الحسنات، فمن قرأ القرآن بتدبر ليس كمن قرأ مجرد حروفه.

5-دفع أوهام التعارض بين الآيات.

 

أهم وسائل تحصيل ملَكة التدبر:

1-تعظيم كلام الله عز وجل، وذلك باستحضار أن الكلام المقروء ليس كلام البشر، وأن يستحضر أن الكلام موجه له.

2-صدق النية، فبقدر صلاح النوايا تأتي العطايا.

3-الابتعاد عن الملهيات والمشْغِلات، وجمع القلب والهم حال التدبر.

4-فهم المعنى الإجمالي للآيات.

5-تكرير التلاوة والتأمل في الآيات؛ فبكثرة التكرار تظهر الأسرار.

6-ملاحظة سياق الآيات.

7-ربط الآية بما قبلها وما بعدها.

8-فهم الوحدة الموضوعية للسورة.

 

موانع التدبر:

1-سوء القصد والنية.

2-عدم معرفة تفسير الآيات.

3- اللهو والانشغال حال قراءة القرآن.

4-التعصب والجمود والتقليد، فيظن أن تدبر العالِم الفلاني ليس وراءه تدبر أو قول، فيُفوت على نفسه خيراً كثيرا.

5-كثرة الذنوب، ومنها الكِبْر؛ قال تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}

 

نماذج من تدبر الآيات:

1- «قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:‌‌ كُونُوا لِقُبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ هَمًّا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللَّهَ يَقُولُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ ‌الْمُتَّقِينَ} [المائدة: ٢٧]»[2]

2-في قوله تعالى: {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} قال العز بن عبد السلام: "فِراق الفجرة من شيم البررة، لأن جليس السوء كصاحب الكير".

3- قال ابن تيمية: في قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال: كَمَا أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ لَا يَمَسُّهُ إلَّا بَدَنٌ طَاهِرٌ، فَمَعَانِي الْقُرْآنِ لَا يَذُوقُهَا إلَّا الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ وَهِيَ قُلُوبُ الْمُتَّقِينَ كَانَ.

4-في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)}

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} النجوم علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ثم أتبعها بما يهتدى به في ظلمات الشرك والجهل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}.

5-في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} من تدبرها لم يتجرأ أن يسخر من إنسان خلقه الله تعالى، ولا أن يحتقر خِلقةً مدحها الله عز وجل.



(1) انظر "نحو منهجية لتدبر القرآن" للدكتور أسامة المراكبي

[2] «الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا» (ص39)