الخميس، 5 ديسمبر 2019

السماحة

السماحة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه واتبع هداه، أما بعد:
فعن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً قال: ((أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالًا، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ - قال ولا يكتمون الله حديثًا – قال: يا رب آتيتني مالك، فكنت أبايع النَّاس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أتيسَّر على الموسر، وأنظر المعسر. فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي)) متفق عليه.
السَّمَاحَة: التَّسامح مع الغير، في المعاملات المختلفة، ويكون ذلك بتيسير الأمور، والملاينة فيها، التي تتجلى في التيسير وعدم القهر.
قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].
ففي هذه الآية (وجَّه الله الدائنين إلى التيسير على المدينين المعسرين، فعلَّمهم الله بذلك سماحة النفس، وحسن التغاضي عن المعسرين)
وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)) رواه البخاري.
إذا قضى: أي: وفى ما عليه بسهولة، سمحًا إذا اقتضى أي: طلب قضاء حقه.
وقال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
قال السعدي: (هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع النَّاس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به النَّاس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق... ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحًا في تعامله وهو المثل الأكمل في السَّمَاحَة، يحكي لنا أنس رضي الله عنه ما لاقاه من النَّبي صلى الله عليه وسلم من حسن المعاملة فيقول: ((خدمتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟)) البخاري.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هيِّن سهل)) الترمذي وصححه الألباني.
((قريب)). أي: من النَّاس بمجالستهم في محافل الطاعة، وملاطفتهم قدر الطاعة.
وهناك علامات للمتصف بخلق السَّمَاحَة منها:
1-طلاقة الوجه.        2-مبادرة النَّاس بالتحية والسلام والمصافحة وحسن المحادثة.
3-حسن المصاحبة والمعاشرة والتغاضي وعدم التشدد في الأمور.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب)) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.
ومن سماحته صلى الله عليه وسلم، تعامله مع الأعرابي الذي جذب رداءه بشدة؛ ليأمر له بعطاء، فعن أنس قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، ورجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء)) متفق عليه.
ومن سماحته صلى الله عليه وسلم، عفوه عمن أراد قتله، فعن جابر رضي الله عنه أنَّه غزا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق النَّاس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة، فعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: ((إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله ثلاثًا، ولم يعاقبه وجلس)) رواه البخاري.
 

الأحد، 10 نوفمبر 2019

مقارنة المتون


مقارنة المتون [1]

إن لعلم الْحَدِيْث ارتباطاً وثيقاً بالفقه الإسلامي؛ إِذْ إنا نجد جزءاً كبيراً من الفقه هُوَ في الأصل ثمرة للحديث، فعلى هَذَا فإن الْحَدِيْث أحد المراجع الرئيسة للفقه الإسلامي، ومعلوم أنَّهُ قَدْ حصلت اختلافات كثيرة في فقه الْحَدِيْث، وهذه الاختلافات مِنْهَا ما هُوَ في السند، ومنها ما هُوَ في الْمَتْن، ومنها ما هُوَ مشترك بَيْنَ الْمَتْن والسند، وَقَدْ كَانَ لهذه الاختلافات دورٌ كبيرٌ في اختلاف الفقهاء.
وإن مقارنة المتون بعضها ببعض، والأسانيد بعضها ببعض، والاطلاع على درجات الرواة في الحفظ والإتقان، يفيد الباحث في الترجيح بين المتون والأسانيد، وإزالة إشكالٍ في المعاني المشكلة والألفاظ الغامضة.
ومن الأسباب التي أدت إلى اختلاف ألفاظ المتون:
1-رواية الحديث بالمعنى: فإن بَعْض الرُّوَاة قَدْ يسوّغ لنفسه رِوَايَة الْحَدِيْث بالمعنى عَلَى وجهٍ يظن أنَّهُ أدى المطلوب مِنْهُ، وَلَكِنْ بمقارنة روايات غَيْره يظهر قصوره في تأدية المعنى، مثال ذلك:
حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رَسُوْل الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينةُ، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتِمّوا»[2].
فقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيْث عن أبي هُرَيْرَةَ ستةٌ من التابعين، وحصل خلاف في لفظه عَلَى النحو الآتي:
منهم من رواه بلفظ "فأتموا"، ومنهم من رواه بلفظ "فاقضوا"[3].
وَقَد اختلف الفقهاء -بناءً على اختلاف لفظتي الحديث- في أنّ ما أدركه المسبوق هَلْ هُوَ أول صلاته أم آخر صلاته، وأنّ ما يأتي بِهِ بَعْدَ سلام الإمام هَلْ هُوَ أول صلاته أم أنَّهُ يبني عَلَى ما صلّى فتكون آخر صلاته؟ عَلَى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ الإمام هُوَ أول صلاته حكماً وفعلاً، وما يقضيه بَعْدَ سلام الإمام آخر صلاته حكماً وفعلاً.
وروي هَذَا عن: عمر، وعلي، وأبي الدرداء، وعطاء، ومكحول، وعمر بن عَبْد العزيز، والزهري، وسعيد بن عَبْد العزيز، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وَهُوَ رِوَايَة عن الحسن البصري، وابن سيرين، وأبي قلابة، وإليه ذهب الشافعية، وَهُوَ رِوَايَة عن مالك، وأحمد.
واحتجوا بِمَا ورد في لفظ حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ: "فأتموا".
القول الثاني: أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ الإمام هُوَ أول صلاته بالنسبة للأفعال، وآخرها بالنسبة للأقوال، بمعنى أنَّهُ يَكُوْن قاضياً في القول بانياً في الفعل.
روي هَذَا عن: ابن مسعود، وابن عمر، والنخعي، ومجاهد، والشعبي، وعبيد ابن عمير، والثوري، والحسن بن صالح، وَهُوَ الرِّوَايَة الأخرى عن: الحسن البصري، وابن سيرين، وأبي قلابة، وبه قَالَ الحنفية، والمشهور من مذهب مالك، والأشهر في مذهب أحمد، وظاهر مذهب ابن حزم.
واستدلوا بالرواية الأخرى في حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ: "فاقضوا".
القول الثالث: أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ أمامه هُوَ آخر صلاته قولاً وفعلاً، وما بقي أولها.
روي هَذَا عن جندب بن عَبْد الله، وَهُوَ رِوَايَة عن مالك، وأحمد.
2-اختصار الحديث: وَقَدْ ترتب عَلَى اختصار بَعْض الرُّوَاة للأحاديث، خلاف بَيْنَ الفقهاء في بَعْض جزئيات الفقه الإسلامي، ونستطيع أن نمثل ذَلِكَ بِمَا يأتي:
رَوَى شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح»[4].
هكذا رَوَى شعبةُ الْحَدِيْثَ مختصراً، نبّه عَلَى ذَلِكَ أبو حاتم الرازي قال: "هَذَا وهم، اختصر شعبة مَتْن هَذَا الْحَدِيْث، فَقَالَ: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح»، ورواه أصحاب سهيل عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا كَانَ أحدكم في الصَّلاَة فوجد ريحاً من نفسه فَلاَ يخرجن حَتَّى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً»[5].
فيُفهم من رواية شعبة أن للوضوء ناقضين فقط، بينما الرواية جاءت في حالة مخصوصة، بل جاء في الصحيح أن هذا الحديث كان جواباً لسؤال، فقد أخرج البخاري وسلم عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: «لاَ يَنْفَتِلْ - أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ - حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»[6].
والقاعدة الأصولية تفيد أن النَّصَّ الوارد جوابًا لسؤال، لا يعتبر مفهومه المخالف.
فهذا الاختصار من شعبة أثَّر على مفهوم الحديث، حيث لم يبين أنه سؤال خاص في حالة خاصة.



[1] انظر: كتاب: "أثر اختلاف المتون والأسانيد في اختلاف الفقهاء"، للدكتور ماهر الفحل.
[2] روايات الْحَدِيْث مطولة ومختصرة والمعنى واحد، وهذه رِوَايَة الشافعي في السنن المأثورة (66).
[3] انظر التخريج المطول لهذه الروايات في " أثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء" (ص132)
[4] أخرجه أحمد 2/ 410 و435 و471، وابن ماجه (515)، والترمذي (74).
[5] علل الْحَدِيْث 1/ 47 (107).
[6] أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).