الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020

أبو إسحاق الفَزاري

 

الإمام أبو إسحاق الفزاري

إن "ذكر الصالحين ومراجعة سيرهم وتشنيف الأذان بسماع أخبارهم، مما يثلج صدور المؤمنين وينزل السكينة في قلوب الموحدين، فهم القدوة والمثل، والنموذج الأسمى في تطبيق أخلاق الإسلام.

وقد كان القرآن الكريم يقصُّ علينا أخبار الأنبياء الكرام، فنحسُّ بالقمم الإنسانية الشامخة ترنو إلينا، فستنهض هممنا، ويقص علينا أخبار الصالحين من غير الأنبياء، الذين كان لهم الدور الكبير في نشر كلمة لا إله إلا الله، وإعلائها، وتَحَمُّلِ الأذى، والصبر عليه"[1].

ومما استوقفتني وأنا أقرأ في كتاب "تهذيب التهذيب" لابن حجر، ترجمة الإمام إبراهيم الفزاري، وما رأيت فيها من عِلم وهِمَّة وعبادةٍ وجهاد وتضحيات، فأحببت أن أفردها في مقالة في مدونتي.

* * *

أقول هو: الإمام الكبير، الحافظ، المجاهد: إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري الشامي.

ولد في العراق بــ "واسط"، وابتدأ في كتابة الحديث وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وكان من الفقهاء والعُبَّاد.

أثنى عليه العلماء فهذا أبو حاتم الرازي يقول: "اتفق العلماء على أن أبا إسحاق الفزاري إمام يقتدى به، بلا مدافعة".

وكان مع عِلمه بالسنن مجاهداً في سبيل الله، قال ابن سعد: "كان ثقة فاضلا صاحب سنة، وغزو".

بل كان حريصاً على تعليم المجاهدين وأمرهم بفعل الطاعات وترك المنكرات، وتنقية صفوفهم من دخول أهل البدع، قال أحمد العجلي: "كان ثقة، صاحب سنة، صالحا، هو الذي أدب أهل الثَّغْر[2]، وعلمهم السُّنَّة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع، أخرجه، وكان كثير الحديث، وكان له فقه".

وكان لا يضع علمه عند مَن لا يستحق، كما قال عِكْرِمَة: "إن لهذا العلم ثمنًا، قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يُحْسِن حَمْلَه ولا يضيعه"، قال أبو مسهر قدم علينا أبو إسحاق فاجتمع الناس يسمعون منه، قال فقال لي: "أخرج إلى الناس فقل لهم من كان يرى القَدَر فلا يحضر مجلسنا" ففعلت.

فأهل البدع ربما ضيعوا السنن بكتم ما يخالف مذهبهم، أو بتأويلها بما يوافق مذهبهم الباطل!

ولسعة علمه بالسُّنن فقد كان مرجعا يوثق به في تمييز الصحيح من السقيم من الحديث؛ يُروى: أن هارون الرشيد أخذ زنديقا ليقتله، فقال الرجل: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟!

قال: "فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وابن المبارك يتخللانها، فيخرجانها حرفا حرفا".

وكان الناس يختبرون به؛ فلا يحبه إلا صاحب سنَّة ولا يبغضه إلا صاحب بدعة، قال ابن مهدي: "رجلان من أهل الشام إذا رأيت رجلا يحبهما فاطمئن إليه: الأوزاعي وأبو إسحاق كانا إمامين في السنة".

وكان الفزاري رحمه الله من علماء الأمة الذين اجتهدوا في نشر علمهم وبثه بين المسلمين فانتفع الناس بعلمهم، قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: قلت لأبي أسامة: أيهما أفضل: فضيل بن عياض، أو أبو إسحاق الفزاري؟

فقال: "كان فضيل رجل نفسه، وكان أبو إسحاق رجل عامة".

وله من المؤلفات كتاب في السِّيَر، قال الخليلي: "أبو إسحاق إمام يقتدى به وهو صاحب كتاب السير نظر فيه الشافعي وأملي كتابا على ترتيبه ورضيه", وقال الحميدي قال لي الشافعي: "لم يصنف أحد في السير مثله".

توفي -رحمه الله- سنة 186 هجرية، قال أبو داود الطيالسي: "توفي أبو إسحاق الفزاري وليس على وجه الأرض أحد أفضل منه".

رؤيا صالحة:

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا الصالحةُ يراها المؤمنُ، أو تُرى لهُ"[3].

قال الفضيل بن عياض: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، وإلى جنبه فُرْجَة، فذهبت لأجلس، فقال: "هذا مجلس أبي إسحاق الفزاري!".

وهذا ثواب من اختلطت أنفاسه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاش مقتدياً به !

اللهم ارحم أبا إسحاق الفزاري، وارحم علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين، وارحمنا معهم يا رب العالمين.

 



[1] مقدمة من مقال (ذكر الصالحين) للدكتور بدر عبد الحميد هميسه: http://www.saaid.net/Doat/hamesabadr/183.htm

[2] الثغر: الموضع يخَاف مِنْهُ الْعَدو.

[3] أخرجه الترمذي 2273 وصححه الألباني.

الأحد، 20 ديسمبر 2020

عِزَّةُ النَّفس

 

عِزَّةُ النَّفْسِ

العِزَّة والإيمان صِنْوَان لا يفترقان، فمتى وَقَرَ الإيمان في قلب الرَّجل، وتشبَّع به كيَانُه، واختلط بشِغَاف قلبه، تشرَّب العِزَّة مباشرةً.

والعِزَّة تَنْتُج عن معرفة الإنسان لنفسه، وتقديره لها، وترفُّعه بها عن أن تصيب الدَّنايا، أو تُصَاب بها، أو أن تَخْنَع لغير الله عزَّ وجلَّ أو أن تركع لسواه، أو أن تُدَاهن، وتحابي في دين الله عزَّ وجلَّ ، أو أن ترضى بالدَّنيَّة فيه، فهي نتيجة طبيعيَّة لهذه المعرفة.

* * *

والله سبحانه هو الذي يَهَب العِزَّة لمن يشاء، كما أنَّه يُذِلُّ من يشاء، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

فالعزة من الله تطلب ومنه توهب، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}.

ولذلك كان من دعاء بعض السَّلف: (اللهمَّ أعِزَّني بطاعتك، ولا تذلَّني بمعصيتك).

ولما طلب المنافقون العزة من غير الله تعالى؛ عاب الله عز وجل عليهم وتوعدهم، فقال تعالى:

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}.

فالله عز وجل يُعز الغريب، ويعز الفقير، ويعز الضعيف، وكل هذا مشروط بطاعته.

قال علي بن الحسين: "من أراد عزا بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل من ذُل معصية الله، إلى عز طاعته".

 * * *

ومن أعظم أسباب حصول العزة: الاستغناء عن الناس!

فعن جابر بن عبدالله وسهل بن سعد الساعدي قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريلُ، فقال: يا مُحمَّدُ ! عِشْ ما شِئتَ فإنَّك مَيِّتٌ، وأحْبِبْ من شِئتَ فإنَّكَ مُفارِقُه، واعمَل ما شِئتَ فإنَّك مَجْزِيٌّ بهِ، واعلَم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُه باللَّيلِ، وعِزُّه استِغناؤُه عن النَّاسِ"[1].

وعن سهل بن سعد قال: جاءَ رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ! دُلَّني على عَملٍ؛ إذا أنا عمِلتُه أحبَّني اللهُ وأحبَّني النَّاسُ؟ قال: "ازهَد في الدُّنيا يحبَّكَ اللهُ، وازهَدْ في ما عندَ النَّاسِ يحبَّكَ النَّاسُ"[2].

إن تطلع المرء إلى ما في أيدي الناس، وكثرةَ الطلب من منهم ينزعُ مهابته من صدورهم، وتورثه ذلاً في العاجلة والآجلة أمام الله عز وجل، أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَزالُ المَسْأَلَةُ بأَحَدِكُمْ حتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".

فاقطع الطمع مما في أيدي الناس بالقناعة، فإنها نِعم المعين على ذلك، ورحم الله الإمام الشافعي لما قال:

رَأَيتُ القَناعَةَ رَأس الغِنى         فَصِرتُ بِأَذيالِها مُمَتسِّكِ

فَلا ذا يَراني عَلى بابِهِ           وَلا ذا يَراني بِهِ مُنهَمِكِ

فَصِرتُ غَنيّاً بِلا دِرهَمِ           أَمُرُّ عَلى الناسِ شِبهَ المَلِكِ

 

ومما يذكر لنا التاريخ من صور العزة والتعفف، أن (والي الشام إبراهيم باشا بن محمد علي حاكم مصر دخل المسجد الأموي في وقتٍ كان فيه عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي يلقي درسًا في المصلين، ومرَّ إبراهيم باشا من جانب الشيخ، وكان مادًّا رجله فلم يحركها، ولم يبدِّل جلسته، فاستاء إبراهيم باشا، واغتاظ غيظًا شديدًا، وخرج من المسجد، وقد أضمر في نفسه شرًّا بالشيخ.

وما أن وصل قصره حتى حف به المنافقون من كل جانب، يزينون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه، وما زالوا يؤلبونه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبلا بالسلاسل.

وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ، حتى عاد إبراهيم باشا فغيَّر رأيه، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبوابًا من المشاكل لا قِبل له بإغلاقها.

وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال، فإذا قَبِله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، يضمن ولاءه، ويسقط هيبته في نفوس المسلمين، فلا يبقى له تأثير عليهم.

وأسرع إبراهيم باشا فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلامذته ومريديه.

وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد، واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه، فألقى السلام، وقال للشيخ بصوت عالٍ سمعه كل من حول الشيخ: هذه ألف ليرة ذهبية، يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك.

فَنَظَر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير، وقال له بهدوء وسكينة: يا بُنَيّ، عُدْ بنقود سيدك وردها إليه، وقُلْ له: إن الذي يمدُّ رجله، لا يمد يده).

 

اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك..



[1] حسن، صحيح الجامع 73.

[2] صحيح الجامع 922.