الأحد، 10 نوفمبر 2019

مقارنة المتون


مقارنة المتون [1]

إن لعلم الْحَدِيْث ارتباطاً وثيقاً بالفقه الإسلامي؛ إِذْ إنا نجد جزءاً كبيراً من الفقه هُوَ في الأصل ثمرة للحديث، فعلى هَذَا فإن الْحَدِيْث أحد المراجع الرئيسة للفقه الإسلامي، ومعلوم أنَّهُ قَدْ حصلت اختلافات كثيرة في فقه الْحَدِيْث، وهذه الاختلافات مِنْهَا ما هُوَ في السند، ومنها ما هُوَ في الْمَتْن، ومنها ما هُوَ مشترك بَيْنَ الْمَتْن والسند، وَقَدْ كَانَ لهذه الاختلافات دورٌ كبيرٌ في اختلاف الفقهاء.
وإن مقارنة المتون بعضها ببعض، والأسانيد بعضها ببعض، والاطلاع على درجات الرواة في الحفظ والإتقان، يفيد الباحث في الترجيح بين المتون والأسانيد، وإزالة إشكالٍ في المعاني المشكلة والألفاظ الغامضة.
ومن الأسباب التي أدت إلى اختلاف ألفاظ المتون:
1-رواية الحديث بالمعنى: فإن بَعْض الرُّوَاة قَدْ يسوّغ لنفسه رِوَايَة الْحَدِيْث بالمعنى عَلَى وجهٍ يظن أنَّهُ أدى المطلوب مِنْهُ، وَلَكِنْ بمقارنة روايات غَيْره يظهر قصوره في تأدية المعنى، مثال ذلك:
حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رَسُوْل الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينةُ، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتِمّوا»[2].
فقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيْث عن أبي هُرَيْرَةَ ستةٌ من التابعين، وحصل خلاف في لفظه عَلَى النحو الآتي:
منهم من رواه بلفظ "فأتموا"، ومنهم من رواه بلفظ "فاقضوا"[3].
وَقَد اختلف الفقهاء -بناءً على اختلاف لفظتي الحديث- في أنّ ما أدركه المسبوق هَلْ هُوَ أول صلاته أم آخر صلاته، وأنّ ما يأتي بِهِ بَعْدَ سلام الإمام هَلْ هُوَ أول صلاته أم أنَّهُ يبني عَلَى ما صلّى فتكون آخر صلاته؟ عَلَى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ الإمام هُوَ أول صلاته حكماً وفعلاً، وما يقضيه بَعْدَ سلام الإمام آخر صلاته حكماً وفعلاً.
وروي هَذَا عن: عمر، وعلي، وأبي الدرداء، وعطاء، ومكحول، وعمر بن عَبْد العزيز، والزهري، وسعيد بن عَبْد العزيز، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وَهُوَ رِوَايَة عن الحسن البصري، وابن سيرين، وأبي قلابة، وإليه ذهب الشافعية، وَهُوَ رِوَايَة عن مالك، وأحمد.
واحتجوا بِمَا ورد في لفظ حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ: "فأتموا".
القول الثاني: أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ الإمام هُوَ أول صلاته بالنسبة للأفعال، وآخرها بالنسبة للأقوال، بمعنى أنَّهُ يَكُوْن قاضياً في القول بانياً في الفعل.
روي هَذَا عن: ابن مسعود، وابن عمر، والنخعي، ومجاهد، والشعبي، وعبيد ابن عمير، والثوري، والحسن بن صالح، وَهُوَ الرِّوَايَة الأخرى عن: الحسن البصري، وابن سيرين، وأبي قلابة، وبه قَالَ الحنفية، والمشهور من مذهب مالك، والأشهر في مذهب أحمد، وظاهر مذهب ابن حزم.
واستدلوا بالرواية الأخرى في حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ: "فاقضوا".
القول الثالث: أنّ ما أدركه المسبوق مَعَ أمامه هُوَ آخر صلاته قولاً وفعلاً، وما بقي أولها.
روي هَذَا عن جندب بن عَبْد الله، وَهُوَ رِوَايَة عن مالك، وأحمد.
2-اختصار الحديث: وَقَدْ ترتب عَلَى اختصار بَعْض الرُّوَاة للأحاديث، خلاف بَيْنَ الفقهاء في بَعْض جزئيات الفقه الإسلامي، ونستطيع أن نمثل ذَلِكَ بِمَا يأتي:
رَوَى شعبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح»[4].
هكذا رَوَى شعبةُ الْحَدِيْثَ مختصراً، نبّه عَلَى ذَلِكَ أبو حاتم الرازي قال: "هَذَا وهم، اختصر شعبة مَتْن هَذَا الْحَدِيْث، فَقَالَ: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح»، ورواه أصحاب سهيل عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا كَانَ أحدكم في الصَّلاَة فوجد ريحاً من نفسه فَلاَ يخرجن حَتَّى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً»[5].
فيُفهم من رواية شعبة أن للوضوء ناقضين فقط، بينما الرواية جاءت في حالة مخصوصة، بل جاء في الصحيح أن هذا الحديث كان جواباً لسؤال، فقد أخرج البخاري وسلم عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: «لاَ يَنْفَتِلْ - أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ - حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»[6].
والقاعدة الأصولية تفيد أن النَّصَّ الوارد جوابًا لسؤال، لا يعتبر مفهومه المخالف.
فهذا الاختصار من شعبة أثَّر على مفهوم الحديث، حيث لم يبين أنه سؤال خاص في حالة خاصة.



[1] انظر: كتاب: "أثر اختلاف المتون والأسانيد في اختلاف الفقهاء"، للدكتور ماهر الفحل.
[2] روايات الْحَدِيْث مطولة ومختصرة والمعنى واحد، وهذه رِوَايَة الشافعي في السنن المأثورة (66).
[3] انظر التخريج المطول لهذه الروايات في " أثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء" (ص132)
[4] أخرجه أحمد 2/ 410 و435 و471، وابن ماجه (515)، والترمذي (74).
[5] علل الْحَدِيْث 1/ 47 (107).
[6] أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).

الجمعة، 8 نوفمبر 2019

مراعاة اختلاف المحدثين في شروط قبول الحديث ورَدِّه


مراعاة اختلاف المحدثين في شروط قبول الحديث ورَدِّه[1]


يرتبط اختلاف العلماء في الحكم على الحديث ارتباطا وثيقًا بنشأة علم الجرح والتعديل، ومعرفة الرجال، وطرق التثبت من الأخبار، ويُعد هذا الاختلاف ظاهرة واقعية، بل من آيات الإبداع قديما وحديثًا.
فلقد أنتجت هذه الاختلافات ثماراً طيبةً أثرت في بناء صرح السنة، ودفعت بأرباب الصنعة لاتخاذ تدابير أمنية لكل ما يمكن أن يطرأ على السُّنة من تقوّلاتٍ وأباطيلَ، وصاحَبَ هذا وضع القواعد التي ساعدت على التعرف إلى حال الراوي والمروي قبولا أو ردًا.
ومن المسائل التي اختلف فيها أهل الحديث[2]، مسألة قبول رواية المجهول، ويدخل في هذا حُكم الحديث الـمُرسل، والـمُعلَّق، والـمُدلَّس، ومجهول العين أو الحال، وبماذا ترتفع جهالته.
وحكم زيادة الثقة، والاختلاف في الرفع والوقف، والإدراج ... إلخ.
وكذلك مسائل طرق التحمل (الإجازة والمناولة والمكاتبة والإعلام والوصية والوجادة) وقع فيها قبولها خلافٌ معروف في كتب المصطلح، فمنهم مَن لا يقبل التحمل عن طريق الإجازة مثلاً.
فخلاف الأئمة في تلك الشروط وغيرها يؤثر على الحكم الشرعي المستفاد من ذلك الحديث المختلف في شروط صحته، ومن أمثلة ذلك[3]: مسألة نقض الوضوء من القهقهة في الصلاة:
حديث أبي العالية المرسل[4] عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوضوء من الضحك في الصلاة[5].
فذهبت الحنفية إلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء؛ إذا حدثت من مصل بالغ يقظان في صلاة كاملة ذات ركوع وسجود، سواء أكان متوضئًا أم متيممًا أم مغتسلاً في الصحيح، وسواء أكانت القهقهة عمدًا أم سهوًا، وقدموا الحديث المرسل على محض القياس.
وخالفهم الجمهور[6]: وردوا الحديث المرسل، وقالوا: القهقهة ليست بحدث، ولا تبطل الوضوء خارج الصلاة؛ فلا يبطله داخلها؛ وإنما هي صوت؛ كالبكاء.



[1] انظر: كتاب "اختلافات المحدثين والفقهاء في الحكم على الحديث" للدكتور عبد الله شعبان علي.
[2] لو مثلت لكل مسألة لطال البحث، فاقتصرت على بعضها.
[3] بحث: "حجية الحديث المرسل" د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري.
[4] أخرجه
[5] قال ابن حزم: (ولم يعيبوه إلا بالإرسال) الإحكام لابن حزم (1/ 144).
[6] قال ابن حزم: كان يلزم المالكيين والشافعيين لشدة تواتره عن عدد من أرسله، وقال ابن التركماني: (ويلزم الحنابلة أيضًا لأنهم يحتجون بالمرسل). والصواب أنه لا يلزمهما؛ لعدم تحقق شروط الاحتجاج به، فرده الشافعي لأن من مرسل الزهري، وهو يروي عن كل أحد؛ ذكره ابن حجر، ورده أحمد مع أنه يحتج بالمراسيل كثيرًا؛ لأن أبا العالية كان يصدق كل من حدثه.