الأربعاء، 31 يوليو 2019

فضل العشر من ذي الحجة


فضل العشر من ذي الحجة


لقد مَنَّ الله عز وجل على هذه الأمة بمواسم للخيرات وأوقات للطاعات يغترف منها الموفَق ما يعوِّض به قِصَرَ عمره[1]؛ فإن الأولين كانت لهم من الآجال الطويلة ما يمكنهم من حصد حسنات كثيرة، ومن تلك المواسم التي تضاعف فيها الحسنات وتغفر فيها الزلَّات، العشر الأُول من شهر ذي الحجة المحرَّم.

فعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-: «ما مِن أيام العملُ الصَّالِحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العَشْرِ، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجِهادُ؟ قال: ولا الجِهادُ، إلا رجل خَرجَ يُخاطِرُ بنفسه ومَاله، فلم يرجع بشيء» [أخرجه البخاري 969].

قال الحافظ ابن حجر: "وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ"[2].

وقد سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية - رَحِمَهُ اللَّه - عن: "عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟

فَأَجَابَ: "أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ".

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ: وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ هَذَا الْجَوَابَ وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا!

وفي اليوم التاسع من شهر ذي الحجة يكون الوقوف بعرفة وفيه ثواب عظيم وأجرٌ عميم؛ فعائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مِنْ يوم أكثرُ من أن يَعْتِقَ الله فيه عبيداً من النار من يوم عَرَفَة، وإنه لَيَدْنو يَتَجَلَّى، ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟» أخرجه مسلم، وزاد رَزين[3]: «اشْهَدُوا يا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم» [صححه الألباني لغيره بتمامه في صحيح الترغيب 1154].

ويسن لمن لم يكن في الموقف أن يصوم يوم عرفة لما فيه من الأجر الجزيل؛ فقد روى الإمام مسلم في صحيحه (1162) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ".

وفيها يوم النحر وهو أفضل أيام السنة، فعن عبد الله بن قرط - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ أعْظَمَ الأيَّامِ عند الله: يومُ النَّحر، ثم يومُ القَرِّ» [رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني].

قال القاري في "يوم القَرِّ": "وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَقَرُّونَ يَوْمَئِذٍ فِي مَنَازِلِهِمْ بِمِنًى، وَلَا يَنْفِرُونَ عَنْهُ"[4].

وفي هذا اليوم تتلاشى آمال الشيطان وطموحاته في إغواء المسلمين، وتذهب جهوده أدراج الرياح؛ فعن طلحة بن عبيد الله بن كريز - رحمه الله -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «ما رؤيَ الشيطانُ يوماً هو فيه أصْغَرُ، ولا أدْحَرُ ولا أحْقَرُ، ولا أغْيَظُ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تَنَزُّل الرحمة، وتجاوز الله عن الذُّنوبِ العِظامِ، إلا ما أُرِيَ يومَ بَدْر، فإنَّه قَدْ رأى جبريل يَزَعُ الملائكة» أخرجه «الموطأ» وقال ابن عبد البر: مرسل حسن[5].

قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: "وعشر ذي الحجة هي التي أقسم الله جل وعلا في محكم التنزيل، وقال سبحانه وتعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، هذه الليالي العشر هي عشر ذي الحجة على المشهور عند أهل العلم، واللهُ أقسم بها لشرفها وفضلها، لأنه سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء من خلقه، ولا يُقسِمُ إلا بشيء له شأن، يلفت العباد إليه، وهو أقسم بهذه لشرفها وفضلها، لأجل أن يتنبه العباد لها، وقيل أنها هي العشر التي أيضاً أكملها الله لموسى -عليه السلام-: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}، قالوا والله أعلم هذه العشر هي عشر ذي الحجة، وقال الله سبحانه وتعالى فيها: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}"[6].

فيجتهد المسلم في هذه الأيام بــــ: الصيام، والتكبير والتهليل والتحميد، وذبح الأُضحية، وصيام يوم عرفة، وأداء الحج والعمرة.

قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "فهذه العشر مستحب فيها الذكر، والتكبير، والقراءة، والصدقات ... ويوم العيد لا يصام بإجماع المسلمين، فإذا قيل: صوم العشر، يعني معناها: التسع، يأتي آخرها يوم عرفة، وصيامها مستحب، وقربة، وروي عن النبي أنه كان يصومها عليه السلام[7] ... وأيام العيد ثلاثة، غير يوم العيد، الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، الجميع أربعة، يوم العيد، وثلاث أيام التشريق".

وقال: "عيد الأضحى أربعة أيام، يوم العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، هذه كلها أيام عيد لا تصام، إلا أيام التشريق تصام بالنسبة إلى من عجز عن الهدي"[8].

فحريٌّ بالمسلم الموفَق أن يجتهد ويبادر تلك اللحظات لعلها لا تعود عليه مرة أخرى، ويا ندم المفرطين حين يرون المجتهدين -في تلك الأيام القلائل- قد ارتفعوا في الجنان كأمثال النجوم الغابرة!

إذا أنْتَ لمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى         وَلاقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَن قد تزَوّدَا

نَدِمْتَ على أنْ لا تَكُونَ كمِثْلِهِ        وأنكَ لمْ ترصدْ لما كانَ أرصدا





[1] قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعمارُ أمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ والسَّبعينَ وأقلُّهم من يجوزُ ذلِك" أخرجه الترمذي (3550)، وابن ماجه (4236) وصححه الألباني.

[2] فتح الباري 2/ 460

[3] رزين بن معاوية بن عمار العبدري السرقسطي الأندلسي، أبو الحسن: إمام الحرمين. نسبته إلى سرقسطة من بلاد الأندلس. جاور بمكة زمنا طويلا، وتوفي بها. له تصانيف، منها "التجريد للصحاح الستة"، توفي 535 هـ.

[4] المرقاة 5/ 1826

[5] التمهيد 1/115

[6] موقع الشيخ صالح الفوزان: https://alfawzan.af.org.sa/ar/node/17140

[7] أخرج الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مِنْ أيام أحَبُّ إلى الله أن يُتعبَّدَ له فيها من عَشْرِ ذي الحجة، يَعْدِلُ صيامُ كل يوم منها بصيام سنة، وقيامُ كلِّ ليلة منها بقيام لَيْلةِ القَدْر» وضعفه الألباني وغيره.


[8] https://binbaz.org.sa/fatwas/17339/%D8%A8%D8%B9%D8%B6-%D8%A7%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%85-%D8%B9%D8%B4%D8%B1-%D8%B0%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%82

الاثنين، 29 يوليو 2019

من أحكام الهدية

من أحكام الهَدِيَّة



عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تَهادُوا تَحابُّوا» [أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594)، وحسنه الألباني]
قال الأمير الصنعاني -رحمه الله-: (وذلك لأن الهدية خلق كريم، وسنة حثت عليها الرسل، واستحسنتها العقول، تتألف بها القلوب، وتذهب شحائن الصدور). [التنوير شرح الجامع الصغير (5/101)]
والهبة والهدية والصدقة أنواع من البر يجمعها: تـَمْلِيكُ العَيـْنِ بلا عِوَض.
فإن مَلَّكَ محتاجاً لطلب ثواب الآخرة فهي: صدقة، وإن نقلها إلى مكان الموهوب له إكراما له: فهدية، وإن ملكه بدون طلب الثواب ولم ينقل إلى مكان الموهوب له: فهبة محضة، فالهبة أعم من الهدية والصدقة، فكُلٌّ من الهدية والصدقة هبة ولا عكس [الموسوعة الفقهية الكويتية (42/ 253)]
وقد قيل: ما استُرضيَ الغضبانُ، ولا استُعطفَ السلطانُ، ولا سُلِبَتِ السَّخائِم ولا دُفِعَت المغارم، ولا استُمِيلَ المحبوب، ولا تُوُقِّيَ المحذورُ بمثلِ الهدِيَّة.
وقد قال الشاعر:
هدايا الـنـاسِ بعضُهُمُ لـبعضٍ           تُوَلِّدُ في قلوبهمُ الوِصالا
وتزرع في الضمير هوىً ووُدَّا           وتكسوك المهابةَ والجلالا
مـصايدُ للـقلوبِ بـغير لَـغْبٍ            وتمنحك المحبةَ والجمالا
[من أحكام الهدية]:
1- تلزم الهدية إذا قبضها الـمُهدى إليه بإذن الـمُهدي، وليس للـمُهدي الرجوع فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: «العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» [أخرجه البخاري (2589)، ومسلم (4170)].
أي: الذي يرجع في عطيته كالكلب يلعق قيأه بعد أن ألقاه، وهو مبالغة في قبح الرجوع بالهبة. [انظر: إرشاد الساري للقسطلاني (4/346)]
إلا إذا كان أباً، فإن له الرجوع فيما أهداه لابنه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَحل لِرَجُلٍ أن يُعطِيَ عَطِيَّةً أو يَهَبَ هِبَةً فيَرْجِعَ فيها، إلا الوالِدَ فيما يُعْطِي وَلَدَه» [أخرجه أبو داود (3539) وصححه الألباني]
2- يجب على الأب المساواة بين أبنائه في الهدية، فلو خصَّ بعضهم بها، أو فاضل بينهم في العطاء دون رضاهم لم يصح ذلك، وإن رضوا صحت الهدية؛ وذلك لحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -: أنَّ أباه تصدق عليه ببعض ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ» [أخرجه البخاري (2587)، ومسلم (1623)]
وفي رواية: «لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» أي: ظُلْم. [أخرجها البخاري (2650)]
3- لا ينبغي ردُّ الهدية، وإن قَلَّتْ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجيبوا الدَّاعيَ، ولا تَردُّوا الهديةَ، ولا تَضرِبوا المسلِمينَ» [أخرجه الإمام أحمد (3838)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (158)]
4- تُسَنُّ الإثابة عليها؛ لفعله صلى الله عليه وسلم ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا». [أخرجه البخاري (2585)].
5- ليس من الدِّين ولا المروءة الـمَنُّ بالهدية، أو طلب غرض دنيويّ من ورائها، أو استعظامها وذكرها في المجالس:
•أما المنُّ بالهدية، فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [سورة البقرة الآية 264]
قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: (أي: لا تبطلوا ثوابها، كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله، وهو المنافق) [زاد المسير في علم التفسير (1/ 239)]
•وأما طلب غرض دنيويّ منها: فقد وروي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أعرابياً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بَكْرة فعوّضه منها ست بكَراتٍ فتسخَّطها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إِنَّ فُلَانًا أَهْدَى إِلَيَّ نَاقَة فَعَوَّضْتُهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَظَلَّ سَاخِطًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ» [أخرجه الترمذي (3945) وصححه الألباني]
والْبَكْرُ فَتِيٌّ مِنِ الْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ غُلَامٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ، وخص المذكورين من القبائل؛ لأن في طَبائعِهم الكرَمُ لا يَقصِدون ويطمَعون بهداياهم أن يُعوَّضوا بمِثلِها أو بأفضلَ منها. [انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/2011)]
•وأما استعظامها وذكرها في المجالس: فقد ذُكر أن رجلا أهدى لرجلٍ دجاجة ثم لم يزل يذكرها في المجالس!، وكلما ذُكر شيءٌ بجمالٍ أو سِمَنٍ قال: هو أحسن أو أسمن من الدجاجة التي أهديتها إليكم، وإن ذُكرت حادثة قال: ذلك قبل أن أُهدي لكم الدجاجة بشهر، وما بينها وبين إهداء الدجاجة إلا أيامٌ قلائل!، فصارت مثلاً لمن يستعظم الهدية. [المستطرف (ص306)]