فضل العشر من ذي الحجة
لقد مَنَّ الله عز وجل على هذه الأمة بمواسم للخيرات وأوقات للطاعات
يغترف منها الموفَق ما يعوِّض به قِصَرَ عمره[1]؛
فإن الأولين كانت لهم من الآجال الطويلة ما يمكنهم من حصد حسنات كثيرة، ومن تلك
المواسم التي تضاعف فيها الحسنات وتغفر فيها الزلَّات، العشر الأُول من شهر ذي
الحجة المحرَّم.
فعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى
الله عليه وسلم-: «ما مِن أيام العملُ الصَّالِحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذه الأيام
العَشْرِ، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجِهادُ؟ قال: ولا الجِهادُ، إلا رجل خَرجَ
يُخاطِرُ بنفسه ومَاله، فلم يرجع بشيء» [أخرجه البخاري 969].
قال الحافظ ابن حجر: "وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي
امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ
فِيهِ وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، وَلَا
يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ"[2].
وقد سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية - رَحِمَهُ اللَّه - عن:
"عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَيُّهُمَا
أَفْضَلُ؟
فَأَجَابَ: "أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ
أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ
رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ".
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ: وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ
هَذَا الْجَوَابَ وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا!
وفي اليوم التاسع من شهر ذي الحجة يكون الوقوف بعرفة وفيه ثواب عظيم
وأجرٌ عميم؛ فعائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مِنْ يوم أكثرُ من
أن يَعْتِقَ الله فيه عبيداً من النار من يوم عَرَفَة، وإنه لَيَدْنو يَتَجَلَّى،
ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟» أخرجه مسلم، وزاد رَزين[3]: «اشْهَدُوا يا ملائكتي
أني قد غفرتُ لهم» [صححه الألباني لغيره بتمامه في صحيح الترغيب 1154].
ويسن لمن لم يكن في الموقف أن يصوم يوم عرفة لما فيه من الأجر الجزيل؛
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه (1162) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صِيَامُ يَوْمِ
عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ،
وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ".
وفيها يوم النحر وهو أفضل أيام السنة، فعن عبد الله بن قرط - رضي
الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ أعْظَمَ الأيَّامِ عند
الله: يومُ النَّحر، ثم يومُ القَرِّ» [رواه أبو داود والنسائي وصححه
الألباني].
قال القاري في "يوم القَرِّ": "وَهُوَ الْيَوْمُ
الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ
يَقَرُّونَ يَوْمَئِذٍ فِي مَنَازِلِهِمْ بِمِنًى، وَلَا يَنْفِرُونَ عَنْهُ"[4].
وفي هذا اليوم تتلاشى آمال الشيطان وطموحاته في إغواء المسلمين، وتذهب
جهوده أدراج الرياح؛ فعن طلحة بن عبيد الله بن كريز - رحمه الله -: أن رسولَ الله
- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما رؤيَ الشيطانُ يوماً هو فيه أصْغَرُ، ولا أدْحَرُ ولا أحْقَرُ، ولا
أغْيَظُ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تَنَزُّل الرحمة، وتجاوز الله عن
الذُّنوبِ العِظامِ، إلا ما أُرِيَ يومَ بَدْر، فإنَّه قَدْ رأى جبريل يَزَعُ
الملائكة» أخرجه «الموطأ» وقال ابن عبد البر: مرسل حسن[5].
قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: "وعشر ذي الحجة هي التي أقسم
الله جل وعلا في محكم التنزيل، وقال سبحانه وتعالى: {وَالْفَجْرِ
وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، هذه الليالي العشر هي عشر ذي الحجة على المشهور عند
أهل العلم، واللهُ أقسم بها لشرفها وفضلها، لأنه سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء من
خلقه، ولا يُقسِمُ إلا بشيء له شأن، يلفت العباد إليه، وهو أقسم بهذه لشرفها
وفضلها، لأجل أن يتنبه العباد لها، وقيل أنها هي العشر التي أيضاً أكملها الله
لموسى -عليه السلام-: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى
ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}، قالوا والله أعلم هذه
العشر هي عشر ذي الحجة، وقال الله سبحانه وتعالى فيها: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ
عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}"[6].
فيجتهد المسلم في هذه الأيام بــــ: الصيام، والتكبير والتهليل
والتحميد، وذبح الأُضحية، وصيام يوم عرفة، وأداء الحج والعمرة.
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "فهذه العشر مستحب فيها الذكر،
والتكبير، والقراءة، والصدقات ... ويوم العيد لا يصام بإجماع المسلمين، فإذا قيل:
صوم العشر، يعني معناها: التسع، يأتي آخرها يوم عرفة، وصيامها مستحب، وقربة، وروي
عن النبي أنه كان يصومها عليه السلام[7]
... وأيام العيد ثلاثة، غير يوم العيد، الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر،
الجميع أربعة، يوم العيد، وثلاث أيام التشريق".
وقال: "عيد الأضحى أربعة أيام، يوم العاشر، والحادي عشر،
والثاني عشر، والثالث عشر، هذه كلها أيام عيد لا تصام، إلا أيام التشريق تصام
بالنسبة إلى من عجز عن الهدي"[8].
فحريٌّ بالمسلم الموفَق أن يجتهد ويبادر تلك اللحظات لعلها لا تعود
عليه مرة أخرى، ويا ندم المفرطين حين يرون المجتهدين -في تلك الأيام القلائل- قد
ارتفعوا في الجنان كأمثال النجوم الغابرة!
إذا أنْتَ لمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى وَلاقَيْتَ
بَعْدَ المَوْتِ مَن قد تزَوّدَا
نَدِمْتَ على أنْ لا تَكُونَ كمِثْلِهِ وأنكَ
لمْ ترصدْ لما كانَ أرصدا
[1] قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "أعمارُ أمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ والسَّبعينَ
وأقلُّهم من يجوزُ ذلِك" أخرجه الترمذي (3550)، وابن ماجه (4236) وصححه
الألباني.
[2] فتح
الباري 2/ 460
[3] رزين
بن معاوية بن عمار العبدري السرقسطي الأندلسي، أبو الحسن: إمام الحرمين. نسبته إلى
سرقسطة من بلاد الأندلس. جاور بمكة زمنا طويلا، وتوفي بها. له تصانيف، منها "التجريد
للصحاح الستة"، توفي 535 هـ.
[4] المرقاة
5/ 1826
[5] التمهيد
1/115
[6] موقع
الشيخ صالح الفوزان: https://alfawzan.af.org.sa/ar/node/17140
[7] أخرج
الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «ما
مِنْ أيام أحَبُّ إلى الله أن يُتعبَّدَ له فيها من عَشْرِ ذي الحجة، يَعْدِلُ
صيامُ كل يوم منها بصيام سنة، وقيامُ كلِّ ليلة منها بقيام لَيْلةِ القَدْر» وضعفه
الألباني وغيره.
[8] https://binbaz.org.sa/fatwas/17339/%D8%A8%D8%B9%D8%B6-%D8%A7%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%85-%D8%B9%D8%B4%D8%B1-%D8%B0%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%82