السبت، 27 يوليو 2019

الاستشراق وشُبُهات المستشرقين


الاستشراق وشُبُهات المستشرقين

منذ مائة وخمسين سَنَةٍ وحتى الوقت الحاضر يصدر في أوروبا بلغاتها المختلفة كتابٌ كلَ يوم عن الإسلام، أي: ستين ألف كتاب قد صدرت بين (1800 - 1950 م) عبر قرن ونصف، وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يوجد حوالي خمسين مركزاً مختصاً بالعالم الإسلامي، والمستشرقون يصدرون الآن ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات كما قرر ذلك "بوزوارث" في "تراث الإسلام"، وعقدوا خلال قرن واحد -هو المائة سَنَةٍ الأخيرة - ثلاثين مؤتمراً، هذا سوى المؤتمرات الإقليمية، وسوى الندوات، وبعض هذه المؤتمرات مثل مؤتمر أوكسفورد ضم قرابة تسعمائة عالم "مستشرق"، فلماذا كل هذا الاهتمام بالإسلام، وبالشرق، وبالعَربِ، وبالقضايا التي تتصل بمنطقة بعيدة عنهم ؟![1].
•الاستشراق: الاستشراق Orientalism تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل من يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم، ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته.
•نشأة الاستشراق: لا يُعرف بالضبط من هو أول غربي اهتم بالدراسات الشرقية ولا في أي وقت كان ذلك ولكن المؤكَّد أنَّ بعض الرهبان الغربيِّين قصدوا الأندلس في إبَّان عظمتها ومجدها[2]، وتثقَّفُوا في مدراسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات.
ومن أوائل هؤلاء الرُهبان، الراهب الفرنسي «جربرت» Jerbert الذي انتخب بَابَا لكنيسة روما عام (999م) بعد تعلُّمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، و«بطرس المحترم» (1092-1156) Pierre Aénéré و«جيرار دي كريمون» (1114–1187) Gérard de Grémone.
وبعد أن عاد هؤلاء الرُّهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العَرَب ومؤلَّفات أشهر علمائهم، ثم أُسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة «بادوي» العربية، وأخذت الأديرة والمدارس العربية تُدَرِّس مؤلفاتِ العرب المترجمة إلى اللاتينية -وهي لغة العلم في جميع بلاد أوروبا يومئذٍ- واستمرَّت الجامعات الغربية تعتمد على اختراعات العرب وكتب العرب وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون[3].
ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية، وترجموا القرآن وبعض الكتب العربية العلميَّة والأدبية، حتى جاء القرن الثامن عشر الميلادي -وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته- فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدرون لذلك المجلاَّت في جميع الممالك الغربية، ويَغِيرُون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية، فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوروبا، وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي مائتين وخمسين ألف مجلداً.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي عُقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873، وتتالى عقد المؤتمرات التي تلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضارته وما تزال تعقد حتى هذه الأيام[4].
•دوافع الاستشراق[5]:
لكل عاملٍ هِمّةٌ تدفعه وتمده نشاطاً إلى ما يتطلع إليه وإلى ما يرجو الحصول عليه، ولن يستمر المرء في عمله -دون هذه الهمة- إلا قليلا ثم يتوقف، وللمستشرقين أهداف تدفعهم وأماني تأزهم نحو ما هم فيه، وأهمها دوافع خمسة:
1-الدافع الديني: لا نحتاج إلى استنتاج وجهد في البحث لنتعرف إلى الدافع الأول للاستشراق عند الغربيِّين وهو الدافع الديني، فقد بدأ بالرهبان - كما رأينا - واستمر كذلك حتى عصرنا الحاضر، وهؤلاء كان يهُمُّهُمْ أنْ يطعنوا في الإسلام ويُشَوِّهُوا محاسنة ويُحَرِّفُوا حقائقه ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدِّينِيَّةِ أنَّ الإسلام دين لا يستحق الانتشار، وأنَّ المسلمين قوم هُمَّجٌ لصوص وسفَّاكُو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية، ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي.
وكذلك أخذوا يهدفون إلى تشويه سُمعة الإسلام في نفوس رُواد ثقافتهم من المسلمين؛ لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلامية، والتشكيك في التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية وكل ما يتَّصل بالإسلام من علم وأدب وتراث.
2-الدافع الاستعماري: لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيِّين وهي في ظاهرها حروب دينية وفي حقيقتها حروب استعمارية، لم ييأس الغَرْبِيُّونَ من العودة إلى احتلال بلاد الإسلام، فاتَّجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شؤونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات؛ ليتعرَّفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموه[6].
ويلاحظ دائماً أن هناك تقارباً وتعاوناً بين "الثالوث الـمُدَمِّر": التنصير والاستشراق والاستعمار[7]، والمستعمرون يساندون المستشرقين والمنصرين لأنهم يستفيدون منهم كثيراً في خططهم الاستعمارية[8].
3 - الدافع التجاري: ومن الدوافع التي كان لها أثرها في تنشيط الاستشراق، رغبة الغربيِّين في التعامل معنا لترويج بضائعهم وشراء مواردنا الطبيعية الخام بأبخس الأثمان ولقتل صناعتنا المحلية التي كانت لها مصانع قائمة مزدهرة في مختلف بلاد العرب والمسلمين.
4 - الدافع السياسي: وهنالك دافع آخر أخذ يتجلَّى في عصرنا الحاضر بعد استقلال أكثر الدول العربية والإسلامية، ففي كل سفارة من سفارات الدول الغربية لدى هذه الدول سكرتير أو ملحق ثقافي يحسِن اللغةَ العربية، ليتمكَّن من الاتصال برجال الفكر والصحافة والسياسة -من أبنائنا- فيتعرَّف إلى أفكارهم، ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته.
5 - الدافع العِلْمِيّ: ومن الـمُسْتَشْرِقِينَ نَفَرٌ قليل جِدًّا أقبلوا على الاستشراق بدافع من حب الاطلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافاتها ولغاتها، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأً في فهم الإسلام وتراثه؛ لأنهم لم يكونوا يتعمَّدون الدَسَّ والتحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من الـمُسْتَشْرِقِينَ، بل إنَّ منهم من اهتدى إلى الإسلام وآمن برسالته[9].
على أنَّ هؤلاء لا يوجدون إلاَّ حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة ما يمكنهم من الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإخلاص؛ لأنَّ أبحاثهم الـمُجَرَّدة عن الهوى، لا تلقى رواجاً، لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين؛ فهي لا تَدُرُّ عليهم ربحاً ولا مالاً؛ ولهذا ندر وجود هذه الفئة في أوساط الـمُسْتَشْرِقِينَ.
•الانتشار ومواقع النفوذ: الغرب هو المسرح الذي يتحرك فوق أرضه المستشرقون، فمنهم الألمان ومنهم البريطانيون والفرنسيون والهولنديون والمجريون، وظهر بعضهم في إيطاليا وفي أسبانيا، وقد علا نجم الاستشراق في أمريكا وصارت له فيها مراكز كثيرة.
ولم تبخل الحكومات، ولا الهيئات ولا الشركات ولا المؤسسات ولا الكنائس في يوم من الأيام في دعم حركة الاستشراق ومدّها بما تحتاجه من مال، وتأييد وإفساح الطريق أمامها في الجامعات حتى بلغ عدد هؤلاء المستشرقين آلافاً كثيرة[10].
•أبرز المستشرقين الذين درسوا السنَّة النبوية:
المستشرقون كثيرون ولهم جهود متفاوتة حسب علمهم والدعم المقدم لهم، وقد كتب الدكتور عبد الرحمن بدوي كتاباً حافلاً جمع ما يقارب مائتين وخمسين مستشرقاً، وسمَّاه "موسوعة المستشرقين"، ولكن أبرزهم:
-إجناتس جولدت سيهر (1850-1921م) هو مستشرق يهودي "مجري" عُرف بنقده للإسلام وبجدية كتاباته، وهو من محرري دائرة المعارف الإسلامية[11]، في العام 1873 وتحت رعاية الحكومة الهنغارية، بدأ رحلته عبر سوريا وفلسطين ومصر، واستغل الفرصة لحضور محاضرات المشايخ المسلمين في مسجد الأزهر في مدينة القاهرة، واشتهر بغزارة إنتاجه عن الإسلام حتى عُدَّ من أهم المستشرقين لكثرة إسهامه وتحقيقاته عن الإسلام ورجاله، متأثراً في كل ذلك بيهوديته.
وهو أول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي، ويعتبره المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوي، فقد ألف الكتب وكتب المقالات بهدف الطعن في السنة وليس البحث العلمي، ومكث سلطانه وسلطان مدرسته متسلطاً على كثير من المستشرقين، والذين ينتمون إلى هذا الدين "بالاسم فقط" واعتبروا كتبه المرجع الأساسي في دراساتهم للأحاديث والسنن، ولم يخرج عن متابعته في كل ما قاله إلا فئة قليلة جداً من المستشرقين المتأخرين عنه، فقد تحرروا من متابعته وناقشوه في بعض ما قال ورأوا في اْحكامه على السُّنة جَوراً وظلما.
-جوزيف شاخت (1902-1969) مستشرق ألماني، وباحث ألماني في الدراسات العربية والإسلامية، متخصص في الفقه الإسلامي، له مؤلفات عدة أبرزها "بداية الفقه المحمدي" والذي حلل فيه فقه الإمام الشافعي ورسالته الشهيرة بالإضافة إلى تحليل نشأة علم الحديث.
أثار شاخت حفيظة العلماء المسلمين لأنه يشكك في صحة الأحاديث النبوية ويرى أنها وضعت أو "لُفقت" خلال الفترة الممتدة بين نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث هجري.
وقد تابع في ذلك أستاذه جولدزيهر في ادعاء تلفيق الأحاديث النبوية، حيث أن شاخت صرح بأنه استفاد من كتاب (دراسات محمدية) لأستاذه.
•أبرز تلاميذ المستشرقين: استطاع المستشرقون أن يتسللوا إلى المجامع العلمية وقد عُيِّن عدد كبير منهم أعضاء في هذه المجامع في سوريا ومصر، كما استطاعوا أن يؤثروا على الدراسات العربية والإسلامية في العالم الإسلامي من خلال تلاميذهم ومؤلفاتهم، منهم:
-طه حسين (1889-1973م): مصري درس في الأزهر، ثم التحق بالجامعة الأهلية حين افتتحت عام 1908، وحصل على الدكتوراه عام 1914، ثم ابتعث إلى فرنسا ليكمل الدراسة، وعاد إلى مصر ليعمل أستاذا للتاريخ ثم أستاذا للغة العربية، عمل عميدا لكلية الآداب، ثم مديرا لجامعة الإسكندرية، ثم وزيرا للمعارف!
له مؤلفات كثيرة ومقالات عديدة، من أشهر كتبه: "في الشعر الجاهلي"، يسئ فيه للقرآن الكريم وللإسلام، واتهم بالكفر والإلحاد.
رد عليه العلامة محمد الخضر حسين التونسي شيخ الأزهر وبَيَّن مغالطاته وهفواته، سماه: "نقض كتاب في الشعر الجاهلي". وقام أيضاً مصطفى صادق الرافعي بتأليف كتاب سماه "تحت راية القرآن" للرد على كتاب "في الشعر الجاهلي"، وغيرهما من العلماء والأدباء المخلصين.
-أحمد أمين (1886-1954م): مصري، يردد في كتبه كلام المستشرقين، ويعتمد على كتب الأدب في تقرير الحقائق!
يقول عنه ولده جلال أمين: "إني لا أتذكر مثلاً أني رأيتُ أبي وهو يصلي، ولا أذكر أني رأيته وهو يقرأ في المصحف، إني أتذكر اعتذاره عن الصوم بسبب مرض أو آخر كان يفرض عليه نظاماً معيناً في الأكل، أو بسبب التدخين، ولكني لا أتذكره وهو ينتظر حلول المغرب ليتناول إفطاره في رمضان"[12].
فما ظنك برجل لا يصلي ولا يصوم ولا يقرأ القرآن بشهادة ولده عليه؟!
عرض عليه صديقه طه حسين أن يعمل مدرسا بكلية الآداب بجامعة القاهرة، فعمل فيها مدرسا ثم أستاذا مساعدا إلى أن أصبح عميدا لها في 1939م.
ومن أبرز مؤلفاته كتاب "فجر الإسلام"[13] الذي يشكك فيه في أحاديث البخاري والكتب الصحيحة ويطعن في أبي هريرة وعدالة الصحابة، وقام الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- بالرد عليه وتفنيد شبهاته من خلال كتابه "السُنة ومكانتها في التشريع الإسلامي".
وغيرهما كثير ممن نشر شبهات المستشرقين أو أحيا مقالات المعتزلة، وسمم بها أفكار عامة الشباب "المثقف"، فصارت أفكار المستشرقين وأذنابهم كالفيروسات المعدية تنتقل جيلاً بعد جيل، فحسبنا الله ونعم الوكيل.



•أبرز شبهات المستشرقين[14]:
1- من الشبهات التي ادعاها بعض غلاة المستشرقين من قديم، وأقام بناءها على وهم فاسد هي أن الحديث بقي مائتي سنة غير مكتوب، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث وقد ردد عدد من المستشرقين هذه الشبهة منهم "جولد سيهر" و"شبرنجر"، و"دوزي".
وقد أراد المستشرقون من وراء هذه المزاعم إضعاف الثقة باستظهار السنة وحفظها في الصدور، فهي مجرد أقوال ومزاعم لا تستند إلى نص تاريخي ولا إلى بحث علمي.
الجواب من عدة وجوه:
أولاً: أن تدوين الحديث قد بدأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأدلُّ نصينِ على كتابة الحديث، ما أخرجه البخاري عن راوية الإسلام أبي هريرة -رضي الله عنه-: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ»[15]، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ»[16] أي: خطبته في حجة الوداع، وكانت عند الصحابة صحائف كتبوا فيها الحديث كأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرها[17].
ثانياً: أن تصنيف الحديث[18] على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة جداً في كتابة الحديث، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير، فتم في أوائل القرن الثاني، بين سنة 120 ـ 130 هـ، بدليل الواقع الذي بين لنا ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد (154)، وجامع سفيان الثوري (161)، وهشام بن حسان (148)، وابن جريج (150)، وغيرها كثير[19].
ثالثاً: وأما ما كان من جانب الحفظ فقد كانوا أمةً الحفظُ ديدنهم في أشعارهم وأخبارهم، ومع ذلك فقد ضربوا أروع الأمثلة في صيانة السنة حين بدأ البحث عن عدالة الرواة منذ عهد الصحابة.

2- ومن الشبهات التي رددها أذناب المستشرقين قولهم: "لو كانت السنة ضرورية لحفظها الله كما حفظ القرآن في قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، ولأمر النبي -صلى الله عليه وسلم - بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن".
الجواب: معنى الحفظ في الآية كما قال البغوي وغيره: "نَحْفَظُ الْقُرْآنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَزِيدُوا فِيهِ، أَوْ يَنْقُصُوا مِنْهُ، أَوْ يُبَدِّلُوا"، أي: حفظ حروفه؛ لأنه متَعَبّد بتلاوته؛ لذلك كان جهد النبي صلى الله عليه وسلم منصب على كتابته -من خلال كُتّاب الوحي- كما أُنزل، وهذه المشقة صرح بها زيد بن ثابت -رضي الله عنه- حين طلب منه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- جمع القرآن فقال: "فوالله لو كلفونِي نقلَ جبلٍ من الجبالِ ما كانَ أثقلَ عليَّ من ذلك"[20]، لأنه سيكتب كل حرف كما أُنزل في مصحف واحد، مع أن القرآن محدود الكلمات والحروف.
أما السُّنة فلم يأمر الله عز وجل ولا النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها كما يُكتب القرآن، لأن بينهما فروقاً، منها: أن القرآن متعبد بتلاوته فوجب كتابته كما أُنزل، أما السنة فليست كذلك فيجوز روايتها بالمعنى، ومنها: أنه لو كُلف المسلمون بكتابة الحديث لوجدوا بذلك مشقة عظيمة؛ لأن كلام النبي صلى الله وسلم كثير جداً، وكانت أدوات الكتابة عزيزة ونادرة، حتى إن القرآن كان يكتب على جريد النخل والعظام والجلود، ثم إن هذا العمل يحتاجه إلى تفرغ عدد كبير من الصحابة له، وأنهم لم يكونوا جميعا يحسنون الكتابة، بل كان الكاتبون منهم أفراداً قلائل، فكان تركيز هؤلاء الكتبة من الصحابة على كتابة القرآن دون غيره لخوف اختلاطها بالقرآن حال تنزيله، وإنما ترك الحرية لمن أراد أن يكتب الأحاديث كما تقدم ولم يلزمهم بذلك.
ولكنَّ الذي لا يذكره المستشرقون وأذنابهم هو أن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببيان القرآن -الذي تكفل الله بحفظ حروفه-، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} قال ابن كثير: "فَتُفَصِّلَ لَهُمْ مَا أُجْمِلَ، وَتُبَيِّنَ لَهُمْ مَا أُشْكِلَ"، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم يكون بفعله وقوله وتقريره، وهذه هي السُنَّة، فبحفظ حروف القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له؛ حُفِظَت الشريعة الإسلامية.

3-قال المستشرقون في الحديث الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم: - "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه"[21]، قالوا: "لو كان هذا الحديث صحيحاً لما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كتابة السنة[22]، ولأمر بتدوينها كما دون القرآن، ولا يمكن أن يدع نصف ما أوحي إليه بين الناس بغير كتابة، ولا يكون حينئذ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها، ولماذا ترك الصحابة نصف الوحي ولم يدونوه، فبإهمالهم له يصبحون جميعاً من الآثمين".
الجواب:
أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم "ومثله معه" لا تعني المثلية المطلقة[23]، إنما المثلية في التشريع، فلا حجة في كون السنة مثل القرآن فتُحفظ حروفها كما حُفظ القرآن.
ثانياً: قولهم: (لو كان هذا الحديث صحيحاً لما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كتابة السنة).
نقول: قد تقدم ذِكر النصوص في الإذن بكتابة الحديث وجوازه، وأما الحديث الوارد في النهي، فقد أعلَّه الإمام البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد، كما نقله ابن حجر في الفتح[24].
وعلى فرض صحته فله توجيهات، منها: أن الحديث الوارد في النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره والإذن في غير ذلك، أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها، وقيل النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ والإذن لمن أمن منه ذلك.
ثالثاً: قولهم: (ولا يمكن أن يدع نصف ما أوحي إليه بين الناس بغير كتابة).
أقول: تقدم أن بعض الصحابة كان يكتب ما يحتاج إليه، ثم إن العرب قبل النبي صلى عليه وسلم كانوا يعتمدون على قوة حافظتهم وصفاء أذهانهم كما هو واضح في حفظ المعلقات والأشعار والأخبار الماضية[25]، وكان الأمر كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فبقوة حافظتهم حفظوا ما قاله النبي صلى عليه وسلم وبلغوه للتابعين، كما قال: "تسمَعون، ويُسمَعُ منكم، ويُسمَعُ ممَّن سمِع منكم"[26]، وقال كذلك: "بلغوا عني ولو آية"[27]، فهذه ثقة من النبي صلى عليه وسلم بتبليغ أصحابه الشرع حفظاً كان أو كتابة.
رابعاً: قولهم: (ولا يكون حينئذ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها) أقول: تلك أمانيهم!، فبشهادة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم، وبشهادة أصحابه نأخذ، وليس من المستشرقين وأذنابهم، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فكمال الدين يشمل حفظ أصله وهو القرآن، وبيانه وهي السنة.
وحفظ الدين وشموله أثار حقد المستشرقين ومَن على شاكلتهم من قديم الزمان، حتى قِيلَ لسَلمانَ الفارسِيِّ -رضي الله عنه-: "قدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شيءٍ حتَّى الخِراءَةَ[28]!، فقالَ: أجَلْ ..." الحديث، وقال أبو ذر رضي الله عنه أيضاً: "لقْدَ تَرَكَنَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما يُحَرِّكُ طائِرٌ جَنَاحَيْهِ في السماءِ إلا ذَكَّرَنا مِنْهُ عِلْمًا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما بَقِيَ شَيْءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الجنةِ ويباعِدُ منَ النارِ إلَّا وقَدْ بُيِّنَ لَكم"[29].
خامساً: قولهم (ولماذا ترك الصحابة نصف الوحي ولم يدونوه، فبإهمالهم له يصبحون جميعاً من الآثمين).
أقول: قد تبين فيما مضى أن مِن الصحابة مَن كتب الوحي -القرآن والسنة-، ومنهم مَن حفظه، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الوحي -كما تقدم- وحذَّرهم -ومَن بعدهم- من كتمان العلم، فقال: "من كتمَ علمًا ألجمَهُ اللهُ يومَ القيامةِ بلِجامٍ من نارٍ"[30]، فامتثلوا لذلك في حياته صلى الله عليه وسلم، فبعث رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مصعبَ بنَ عمير إلى المدينة النبوية داعية، قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فلم يبق بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإسلام، وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن معلماً، وغيرهما كذلك، حتى أنزل الله آيات الرضى عنهم، فقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
فهذا ثناء عطر من المولى عز وجل لا يكون لمن زعمه المستشرقون: (فبإهمالهم له يصبحون جميعاً من الآثمين).
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ملأوا الدنيا علماً وجهاداً، وهذه قبورهم المتفرقة في أرجاء المعمورة تشهد لذلك.
4- ومن الشبهات التي يرددها المستشرقين وأذنابهم هو ما فهموه من قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، وقوله سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}، فقالوا: إن هذه الآيات وأمثالها تدل على أن الكتاب قد حوى كل شيء من أمور الدين، فلا حاجة للسُنّة.
الجواب: قوله تعالى {في الكتاب} يحتمل قولين[31]:
أحدهما: أن المراد به: اللوح المحفوظ، والمعنى: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب، فعلى هذا القول بطل استدلالهم بالآية، لأن، لأن اللوح المحفوظ قد كتبت فيه سُنة النبي صلى الله عليه وسلم وكل شيء.
والثاني: أن المراد به: القرآن، والمعنى: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم في القرآن.
قال ابن الجوزي: "فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصا، وإما مجملا، وإما دلالة". أي: بالإحالة على المصدر الثاني من مصادر التشريع وهي السنة التي تبين المجمل وتوضح المشكل.
ويوضح ذلك ما قاله رجلٌ لعمران بن حصين -رضي الله عنه-: (يَا أَبَا نجيد إِنَّكُم تحدثونا بِأَحَادِيث لم نجد لَهَا أصلا فِي الْقُرْآن، فَغَضب عمرَان وَقَالَ للرجل: قَرَأت الْقُرْآن؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَهَل وجدت فِيهِ صَلَاة الْعشَاء أَرْبعا وَوجدت الْمغرب ثَلَاثًا والغداة رَكْعَتَيْنِ وَالظّهْر أَرْبعا وَالْعصر أَرْبعا؟ قَالَ: لَا: قَالَ. فَعَن من أَخَذْتُم ذَلِك، ألستم عَنَّا أخذتموه وأخذناه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أوجدتم فِيهِ من كل أَرْبَعِينَ شَاة شَاة وَفِي كل كَذَا بَعِيرًا كَذَا وفى كل كَذَا درهما كَذَا. قَالَ: لَا. قَالَ فَعَن من أَخَذْتُم ذَلِك؟ ألستم عَنَّا أخذتموه وأخذناه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَقَالَ: أوجدتم فِي الْقُرْآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أوجدتم فِيهِ فطوفوا سبعا واركعوا رَكْعَتَيْنِ خلف الْمقَام، أَو وجدْتُم فِي الْقُرْآن: لَا جلب وَلَا جنب وَلَا شغار فِي الْإِسْلَام؟ أما سَمِعْتُمْ الله قَالَ فِي كِتَابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَ عمرَان: فقد أَخذنَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشْيَاء لَيْسَ لكم بهَا علم)[32].
5- ويحتج المستشرقون أيضاً بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحديث سيفشو عنِّي، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عنِّي، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عنِّي)، فقالوا: إذا أثبتت السنة حكماً جديداً فإنها تكون غير موافقة للقرآن، وإن لم تثبت حكماً جديداً فإنها تكون لمجرد التأكيد فالحجة إذاً في القرآن وحده.
الجواب: أحاديث العرض على كتاب الله كلها ضعيفة لا يصح التمسك بشيء منها كما ذكر أهل العلم، وقال البيهقي: والحديث الذي روى في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن!

6- قال المستشرقون: إن السُّنة لم تكن شرعاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون سنته مصدراً تشريعياً للدين، وما قال شيئاً أو فعله بقصد التشريع، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أن يكون ثمة مصدر تشريعي سوى القرآن المجيد، بل كان مصدر التشريع عند الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن وحده، وكذلك فهم الصحابة رضوان الله عليهم، وجاء عهد التابعين الذين بدأت فيه فتنة القول بالسُّنة!
الجواب:
أولاً: هذه أقاويل مرسلة ليس لها زمام ولا خطام ولا مستند من القرآن ولا من التاريخ، بل إن كل مستند علمي يدل على بطلان هذه الشبهة المتهافتة.
ألم يقل الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ألم يبين النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة -وهي تشريع- للمسلمين بفعله فقال: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي"[33]، ألم يُبين الصلاة بقوله حين قال لمن لم يحسن الصلاة: "إذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فأسْبِغِ الوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بما تَيَسَّرَ معكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذلكَ في صَلَاتِكَ كُلِّهَا"[34].
ومَن نظر في كتب أحاديث الأحكام كالسنن الكبرى للبيهقي -وهو أجمعها- عَلِم أن أقوال النبي عليه الصلاة السلام غالبها التشريع، وليس كما يدعيه هؤلاء.
ثانياً: قولهم (ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أن يكون ثمة مصدر تشريعي سوى القرآن المجيد) كذب محض، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر ممن يقول مثل هذا، كما صح عنه أنه قال: "يوشِكُ الرَّجلُ متَّكئًا علَى أريكتِهِ يحدَّثُ بحديثٍ من حديثي فيقولُ بينَنا وبينَكُم كتابُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ما وجَدنا فيهِ من حلالٍ استحلَلناهُ وما وجدنا فيهِ من حرامٍ حرَّمناهُ ألَّا وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مثلُ ما حرَّمَ اللَّهُ"[35].
ثالثاً: قولهم (وكذلك فهم الصحابة رضوان الله عليهم) قول باطل، فقد مَرَّ أثرُ عمران بن حصين -رضي الله عنه- الذي يبين كذب هذا القول، وكتب التاريخ والسنن والطبقات كلها تذكر تحديثَ الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام وغيرها.
رابعاً: قولهم (وجاء عهد التابعين الذين بدأت فيه فتنة القول بالسُّنة)، أقول: هل يُعقل أن عشرات الآلاف من التابعين في مشارق الأرض ومغاربها يتفقون على الكذب حين يقولون حدثنا فلان من الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
أعني اعتبارهم الإسناد وأهميته -بغض النظر عن المتن-، هذا أمرٌ متواتر يُكذِّبُ دعوى اتهام التابعين باختلاق "السُنة"، ثم إن هؤلاء المستشرقين -يهوداً كانوا أم نصارى- يؤمنون بأقل من ذلك، فهم يؤمنون بالتوراة والإنجيل مع جهل ناقليها وتحريف ما فيها، فكيف ينتقدون ما تواتر عند العقلاء.

7- ومن شبهاتهم أيضا أن بين السنة والقرآن تعارضا في الكثير كما يزعمون أن السنة تتعارض فيما بينها ويرتبون على ذلك النتيجة التي قدموا لها بأنه لا داعي للأخذ بالسنة أي بالأحاديث النبوية.
أقول: لا يوجد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير منسوخ يتعارض مع القرآن، قد يوجد تعارض بسبب قلة الفهم أو قلة العلم، لذلك ظهر عند المسلمين علم اسمه (مُشكِل الحديث) وهذا العلم يبحث في حل الإشكال أو التعارض الظاهري لدى القارئ أو السامع بين الأحاديث والقرآن أو السُنة أو التاريخ أو الواقع، وهناك علم آخر اسمه (مُختلِف الحديث) وهو علم يبحث في الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها التعارض.
وانظر على سبيل المثال كتاب الإمام الشافعي "مختلف الحديث"، وكذلك كتاب ابن قتيبة "تأويل مختلف الحديث"، وصنّف العلماء بعدهما في هذا الكثير من الكتب، من أشهرها كتاب "شرح مشكل الآثار" للإمام الطحاوي ، وجاءت دراسات معاصرة مميزة أيضاً، ككتاب "مختلف الحديث" للدكتور أسامة خياط، وغيره.

8- إن حَمَلَةَ السنة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا جنودا للسلاطين والملوك في العصر الأموي والعباسي فكانوا يضعون لهم من الأحاديث ما يوافق رغباتهم ويثبت ملكهم.
أقول: الواقع يكذب هذه الشبهة، كيف يروي الرواة أحاديثاً ضد السلاطين إذا كان الرواة جنوداً للسلاطين؟، كأحاديث التحذير من الدخول على السلطان، منها حديث: "من أتى أبوابَ السلطانِ افتُتِنَ، وما ازداد عبدٌ من السلطانِ قُربًا؛ إلا ازداد من اللهِ بُعدًا"[36]، والواقع أن الملوك والحكام والسلاطين لا يحبون المعارضة والاعتراض فكيف يأمرون الرواة باختلاق حديث: "أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ أو أميرٍ جائرٍ"[37].
بل حقيقة الأمر أن خلفاء بني أمية وبني العباس كانوا حريصين على حفظ السنة ومحاربة الكذابين، أخرج أبو عبد الله الحاكم في "المدخل" داود بن رشيد يقول: "دخل غِياث بن إبراهيم النخعي[38] على المهدي[39] -وكان يعجبه الحمام الطيارة التي تجيء من البعد- فروى غِياث حديثاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أو نصل أَوْ جَنَاحٍ"[40] قال فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قام وخرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جناح، ولكن هذا أراد أن يتقرب إلينا، يا غلام اذبح الحمام، قال فذبح الحمام في الحال".
وفي رواية: قال الغلام يا أمير المؤمنين ما ذنب الحمام قال من أجلهن كَذَبَ هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم[41].
بل كان الخلفاء يَثِقُون بنُقَّاد الحديث الذين يكشفون كذِب الوضاعين، ومما يدل على ذلك ما ذكره الإمام الذهبي قال: "أُتي الخليفة هارون الرشيد[42] -العباسي- بأحد الزنادقة ليقتله، فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟! فقال الرشيد: فأين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفزاري[43]، وابن المبارك[44] ينخلانها فيخرجانها حرفاً حرفاً"[45].
بل إن نقاد الحديث أنفسهم كانوا يجرحون الراوي الذي يدخل على السلطان، قال يحيى بن سعيد القطان عن الراوي (حميد بن هلال): كان ابن سيرين لا يرضاه -يعنى لكونه دخل في شيء من عمل السلطان[46].
وكان أئمة الجرح والتعديل يعتبرون عدم الدخول على السلطان تعديلاً للراوي؛ قال إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين في الراوي: "عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي"، قال فيه: لا بأس به، جميل المذهب، معتزل السلطان![47].

9- لقد اعتبر الطاعنون اختلاف علماء الحديث في توثيق الرجال وتضعيفهم مطعنا في منهجهم، ويلزم من ذلك أن يوثقوا من لا يستحق التوثيق، ويضعفوا من لا يستحق التضعيف، وينتج عنه تصحيح أحاديث لم تبلغ درجة الصحة، ولذلك حكموا على كثير من الأحاديث بالصحة وهي ليست كذلك.
الجواب: هذه الشبهة تتعلق في اختلاف المحدثين في التوثيق والتضعيف، أقول:
أولاً: قولهم: (ويلزم من ذلك أن يوثقوا من لا يستحق التوثيق، ويضعفوا من لا يستحق التضعيف، وينتج عنه تصحيح أحاديث لم تبلغ درجة الصحة) يوهم أن أهل الحديث يضعفون من هو متفق على توثيقه، ويوثقون من هو متفق على تضعيفه، وأن الأمر جزافاً لا يعتمد على أسس ولا منهجية، وهذا ليس بصحيح، فإن المسألة -في الحقيقة- لها ضوابط وقواعد دقيقة، يتمايز في معرفتها نقاد أهل الحديث كما يتمايز أهل كل علم بحسب ما وصل إليه علمه.
ثانياً: العلماء وضعوا ضوابط لتلك القواعد وليس الأمر جزافاً، والاختلاف في ذلك سببه الإخلال بتلك الضوابط.
ومن تلك الضوابط[48]:
•أن العلماء نظروا في كل طبقة من طبقات نقّاد الرجال فرأوا أنها لا تخلو من متشدد ومتوسط:
فمن الأولى: شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، وشعبة أشدّهما.
ومن الثانية: يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى أشد من عبد الرحمن.
ومن الثالثة: يحيى بن معين، والإمام أحمد، ويحيى أشد من أحمد.
ومن الرابعة: أبو حاتم الرازي، والبخاري، وأبو حاتم أشد من البخاري.
والفائدة من معرفة ذلك، طلب المقارنة بين أقوال النقّاد من الطبقة الواحدة في حكمها على الراوي.
قال الحافظ الذهبي: "عبد الرحمن بن مهدي كان هو ويحيى القطان قد انتدبا لنقد الرجال، وناهيك بهما جلالة ونُبْلاً وعلماً وفضلاً، فمن جرحاه لا يكاد -والله- ينْدمِلُ جرحه، ومن وثّقاه فهو الحجّة المقبول، ومن اختلفا فيه اجْتُهد في أمره ونزل عن درجة الصحيح إلى الحسن...".
•ومن تلك الضوابط: أنهم راعوا سبب الجرح، فإن كان شخصياً وليس مبناه على الإنصاف لم يعتد به؛ قال الحافظ ابن حجر: "وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد ... ويلتحق بذلك ما يكون سببه المنافسة في المراتب، فكثيراً ما يقع بين العصريين الاختلاف والتباين لهذا وغيره، فكل هذا ينبغي أن يُتأنَّى فيه ويُتأمَّل".
وقد قال الحافظ الذهبي: "كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يُطوى ولا يُرْوى ويُطرح ولا يجعل طعناً ويعامل الرجل بالعدل والقسط".
•ومن الضوابط التي وضعها أهل العلم: أنه لا يقبل الجرح في حق من استفاضت عدالته واشتهرت إمامته، كالإمام مالك، أو الشافعي.
وذِكْر الضوابط والمنهجية التي سلكها النُقاد يطول ذكرها، ويُطَّلع عليها في مظانها، ونختم في رد هذه الشبهة بقول أحد المستشرقين وهو "ليوبولد فايس"[49] قال: "إننا نتخطى نطاق هذا الكتاب إذا نحن أسهبنا في الكلام على وجه التفصيل في الأسلوب الدقيق الذي كان المحدثون الأوائل يستعملونه للتثبت من صحة كل حديث، ويكفي من أجل ما نحن هنا بصدده أن نقول: إنه نشأ من ذلك علم تام الفروع، غايته الوحيدة البحث في معاني أحاديث الرسول، وشكلها، وطريقة روايتها.
ولقد استطاع هذا العلم في الناحية التاريخية أن يوجد سلسلة متماسكة لتراجم مفصلة لجميع الأشخاص الذين ذكروا عن أنهم رواة أو محدثون، إن تراجم هؤلاء الرجال والنساء قد خضعت لبحث دقيق من كل ناحية، ولم يعد منهم في الثقات إلا أولئك الذين كانت حياتهم وطريقة روايتهم للحديث تتفق تماما مع القواعد التي وضعها المحدثون، تلك القواعد التي تعتبر على أشد ما يمكن أن يكون من الدقة، فإذا اعترض أحد اليوم من أجل ذلك على صحة حديث بعينه أو على الحديث جملة، فإن عليه هو وحده أن يثبت ذلك".

10- ومن شبهاتهم أيضاً قولهم: إن نقد المحدثين اقتصر على نقد الإسناد ولم يشمل نقد المتون.
أقول: إن المستشرقين لما درسوا السُّنة فوجئوا بعلم الإسناد الذي اختصت به هذه الأمة، ومدى إحكامه، فلجؤوا إلى ما اعتمدوه في نقد تاريخهم، وهو قراءة النص فقط؛ لأنهم لم يكن عندهم علم الإسناد، فأرادوا زعزعة ثقة المسلمين بهذا العلم العظيم -علم الإسناد- قائلين بلسان الحال والمقال: حتى لو صح السند، فإن هذا لا يجعل المتن في منأى من النقد، لأن المحدثين لا يميزون النص الصحيح من الفاسد.
وهذا قولٌ مردود نابع من جهل صاحبه وقلة اطلاعه، فإن أهل الحديث ينقدون المتن بجانب نقد السند، ونذكر بعض النقول عنهم، قال ابن أبي حاتم الرازي: "ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاما يصلح أن يكون من كلام النبوة"[50]، فهذا نصٌ في أن النقد منصَبٌّ على السند والمتن معاً.
وكثيراً ما يصحح النقاد الحديث مع تضعيف المتن، ففي ترجمة أحمد بن روح أبو يزيد البزَّازي ذكر الخطيب بسنده عن أنس مرفوعاً: "إذا مات مبتدع فإنه قد فتح على الإسلام فتح"، ثمَّ قال: "الإسناد صحيح، والمتن منكر"[51].
وكذا يقول الذهبي كثيراً، فقد ذكر حديثاً لعبد الله بن الحارث بن جزء وقال: "ومع صحة إسناده، هو منكرٌ من القول"[52].
وبيَّن المعلمي اليماني -رحمه الله- طريقة النُقاد في نقد المتن، فقال: "إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة؛ فإنه يتطلبون له علة، فإن لم يجدوا علة قادحة مطلقا، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر"[53].
والنماذج النظرية والتطبيقية كثيرة، يرجع إليها في مظانها[54].
11- يقول المستشرق " ماكدونالد " وغيره من المستشرقين: "إن الأحاديث لا تنبني عليها الحقائق التاريخية، وإنها سجل مضطرب كثير الأغلاط التاريخية مما يدل على الوضع في الحديث".
قوله (الأحاديث لا تنبني عليها الحقائق التاريخية) وهذا نابع عن قلة اطلاع على كتب الحديث أو هو مجرد تدليس على العامة والجهال، فبأبسط نظرة في دواوين السنة وخاصة "الصحيحين" نجد حشداً ضخماً من الأحاديث النبوية التي تشير إلى وقائع وأحداث تاريخية ماضية كقصص الأنبياء، والأمم السابقة، وبدء الخلق، بدقة عالية تتوافق مع التوراة والإنجيل -الذي يؤمن به اليهود والنصارى- وتضيف حقائق أخرى، كما أن هنالك كثيراً من الأحاديث التي تدل على أمور تحدث في المستقبل[55] كأحاديث الفتن والملاحم وغيرها.
وقوله (مما يدل على الوضع في الحديث) لا ننكر أن هناك أشياء موضوعة، ولكن هناك صحيح السنة التي جاءت بما يوافق مسار التاريخ.

12- يقول المستشرق هنري ماسيه: "إن الوحي الذي كان ينزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- ما كان إلا نوبات صرع تنتابه، وهذا المرض كان سائداً في القرون الوسطى، فيتخيل أرواحاً تمتلكه".
أولاً: إن إنكار الوحي ينسف معتقد المستشرقين -اليهود منهم والنصارى-؛ لأنهم يؤمنون بأنبيائهم الذين يوحى إليهم أيضاً، فهل يقولون بأن أنبياءهم يصرعون أيضاً؟! الجواب: كلا.
فما سبب التفريق إذاً بين محمد صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء، إنما هو الحقد على سيد المرسلين وخاتم النبيين عليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلوات وأتم التسليم.
ثانياً: معلوم عند أهل الطب أن من المضاعفات التي يمكن حدوثها نتيجة الإصابة بمرض الصرع: التأثير على شخصية المريض وعلاقاته الاجتماعية، وانعدام الثقة وسوء تقدير الذات.
فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك؟، بل كان أنجح الشخصيات في التاريخ في تكوين العلاقات الاجتماعية، كان يخاطب الوفود، ويجلس مع المملوك، ويمشي مع الطفل، ويخطط للحروب، ويقسم الأموال، يتزوج النساء، ويصلي بالناس، يسافر مع أصحابه، ويعلم الجاهل، ما جالسه أحداً إلا أحبه، وكان يخطب في الجمعات والمجامع بكل ثبات وثقة.
ثم إن المصاب بالصرع لا يقول كلاماً متوازناً، وإن قال جملة صحيحة، فسيتكلم بأخرى خاطئة، ثم انظر إلى ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من كلام، هل ترى فيه باطلاً؛ بل كان يتكلم بالكلام البليغ الذي حير البلغاء وأفحم الفصحاء، وتحدى أن يأتوا بمثله.
وقائل هذه الشبهة لا يميز بين الحق والباطل والجميل والقبيح، فهو كمن التقط البعر وألقى الدُّر !




13- زعمهم انشغاله صلى الله عليه وسلم بالنساء، يقول غوستاف لوبون[56]: "وضعف محمد صلى الله عليه وسلم الوحيد هو حبه الطارئ للنساء، وهو الذي اقتصر على زوجته الأولى حتى بلغ الخمسين من عمره، ولم يُخْفِ محمد صلى الله عليه وسلم حبه للنساء، فقد قال: "حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"[57]، ولم يبال محمد بسن المرأة التي كان يتزوجها، فتزوج عائشة وهي بنت عشر سنوات، وتزوج ميمونة وهي في السنة الحادية والخمسين من عمرها.
وأطلق محمد العنان لذلك الحب، حتى إنه رأى اتفاقًا زوجة ابنه بالتبني وهي عارية، فوقع في قلبه منها شيء، فسرَّحها بعلُها، ليتزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فاغتم المسلمون، فأوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الذي كان يتصل به يوميًا آيات تسوغ ذلك، فانقلب الانتقاد إلى سكوت"[58].
أقول: الجواب على هذه المزاعم يحتاج وقفة مع كل جملة من تلك الجُمل:
أولاً: قوله (وضعف محمد صلى الله عليه وسلم الوحيد هو حبه الطارئ للنساء) أقول: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أمام النساء لنجح المشركون في ذلك حين عرضوا عليه النساء؛ جاءه عتبة بن ربيعة فقال له: "... إن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت"[59]، فكان رده صارماً أمام كل ما عرضوه المغريات، فقال: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر- حتى يظهره الله أو أهلك فيه- ما تركته"[60].
فأي ضعفٍ يتكلم يتحدث عنه "لوبون" أمام هذا الثبات والشموخ!
أما قوله (حبه الطارئ للنساء) فلعله أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج على خديجة رضي الله عنها حتى توفيت قال تلك الشبهة!
أما سبب اقتصاره على زوجة واحد -خديجة- حتى توفيت؛ فلحُبه لها، فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (لَمْ يَتَزَوَّجْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ)[61]، قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-:"ولم يتزوج في حياتها بسواها، لجلالها وعِظم محلها عنده"[62].
ثم إنه لم يكن من بين زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم الأخريات بِكر إلا عائشة رضي الله عنها، أما الأخريات فأرامل وثيبات، والعاقل يدرك أن زواجه عليه الصلاة والسلام بهؤلاء النساء رضوان الله عليهن لم يكن بدافع شهوة أو هوى في النفس، كما زعم "لوبون".
وأما الحكمة من تعدد زوجاته: أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت بفضل زوجاته بمنزلة مدارس تخرج المؤمنات الداعيات لهذا الدين، وكانت كل زوجة داعية وفقيهة تعلم النساء أحكام دينهن لقربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت النسوة يترددن إليهن، ويسألن عما يشكل عليهن من أمور الدين كحقوق الزوج وأحكام الطهارة والتحلي بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}.
أما قوله: (ولم يُخْفِ محمد صلى الله عليه وسلم حبه للنساء، فقد قال: "حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة") أقول عِبْتَهُ بما ليس بعيب؛ يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ...} الآية، فالشهوة مركبة في كل إنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر، لكن المحظور والممنوع أن يكون إفراغ الشهوة في الحرام، أو اتخاذ الدِّين مطية يتظاهر به حتى يتزوج، والنبي صلى الله عليه وسلم مُنزَّهٌ عن ذلك كما تقدم.
وقوله: (إنه رأى زينب زوجة زيد عارية) فهذه روايات لا تصح؛ قال الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى: فأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل!
والحكمة من زواجه بزينب أن الله قد أبطل بذلك ما كان مقرراً في الجاهلية من حرمة الزواج بحليلة الابن بالتبني، كما قال تعالى في هذه الآيات: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً}.
بل إن تلك الحادثة سببٌ واضح على صحة نبوته، وطهارة جانبه؛ تقول عائشة رضي الله عنها: " لَو كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ كاتمًا شيئًا منَ الوحيِ، لَكَتمَ هذِهِ الآيةَ {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ – يَعني بالإسلامِ – وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ – وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ - أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}[63]".
لِمَا اشتملتْ عليه مِنَ العِتابِ، وإبداءِ ما أسرَّهُ في نفْسِه، وهو أنَّه أَمَرَ زيدًا بألَّا يُطَلِّقَ زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أَعْلمَ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ زيدًا سيُطلِّقُ زَينبَ وستكونُ زَوجًا له صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ طلاقِ زيدٍ لها، ولكنَّه كَتَمَ ذلك في نَفْسِهِ؛ خَشْيَةَ تَشْنِيعِ المنافقينَ عليه وإرجافهم بأنَّه نَهَى عن تَزويجِ نِساءِ الأبناءِ وتَزوَّجَ زوجةَ زيد، وكانَ يُدْعَى بزَيد بن مُحمَّد قبلَ النَّهيِ عن ذلِك وإبطال التَّبنِّي؛ وذلك لحِكمةٍ جليلةٍ نصَّ عليها سبحانَه وتعالى في هذه الآيةِ بقولِه: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}.




14- يقول مرجليوث[64]: "عاش محمد صلى الله عليه وسلم هذه السنين الست ما بعد الهجرة إلى المدينة على التلصص والسلب والنهب - ولكن نهب أهل مكة قد يسوّغه طرده من بلده ومسقط رأسه وضياع أملاكه.
وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في المدينة فقد كان هناك - على أي حال - سبب ما، أحقيقيًا كان أم مصطنعًا يدعو إلى انتقامه منهم، إلا أن خيبر التي تبعد عن المدينة كل هذا البعد لم يرتكب أهلها في حقه ولا في حق أتباعه خطأ يعد تعديًا منهم جميعًا لأن قتلَ أحدِهم رسولَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا يصلح أن يكون ذريعة للانتقام".
نقول: مهلاً أيها القِس مرجليوث، إن كان صدقاً ما تقول وتدعي فلماذا يقاتل محمد -صلى الله عليه وسلم- أهله وقبيلته ويترك دياره ويهاجر وقد عُرِضَ عليه الملك والمال قبل الهجرة، قال له عتبة بن ربيعة: "يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفا سوَّدْناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به مُلْكاً مَلَّكْناك علينا"[65].
ثم على فرض التسليم، فهل كان بعد الهجرة ثرياً مُكثراً من الملذات من الأثاث والمأكولات؟
أخرج البخاري ومسلم عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي «إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلاَلِ، ثُمَّ الهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ»، فَقُلْتُ يَا خَالَةُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: "الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ[66]، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا".
ففي هذا الحديثِ بيانُ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الزُّهدِ في الدُّنيا، والصَّبرِ على التَّقلُّلِ مِن متاعِها، وأخْذِ الضَّرورِيِّ مِنَ العيشِ، وإيثارُ الآخرةِ على الدُّنيا.
أما أثاث منزله، فيخبرنا عنه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، يقول: " دَخَلْتُ علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَهو مُضْطَجِعٌ علَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فأدْنَى عليه إِزَارَهُ وَليسَ عليه غَيْرُهُ، وإذَا الحَصِيرُ قدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ ببَصَرِي في خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَنَا بقَبْضَةٍ مِن شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظًا في نَاحِيَةِ الغُرْفَةِ، وإذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ، قالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قالَ: ما يُبْكِيكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ قُلتُ: يا نَبِيَّ اللهِ، وَما لي لا أَبْكِي وَهذا الحَصِيرُ قدْ أَثَّرَ في جَنْبِكَ، وَهذِه خِزَانَتُكَ لا أَرَى فِيهَا إِلَّا ما أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى في الثِّمَارِ وَالأنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَصَفْوَتُهُ، وَهذِه خِزَانَتُكَ، فَقالَ: يا ابْنَ الخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟ قُلتُ: بَلَى"[67].
ثم لينظر هؤلاء إلى الخُلق العظيم الذي كان يتحلى به الرسول عليه الصلاة والسلام وسماحته مع أعدائه، فبعد فتح مكة انقادت إليه القبائل، وصارت الجزيرة العربية تحت سيطرته، وأولئك الأعداء الذين كذبوه وحاربوه وأعرضوا عن دعوته، وقتلوا أصحابه وأهله، ها هم اليوم ضعفاء وأذلاء أمام هذا النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لهم نبي الرحمة: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء"[68]، فأين الانتقام الذي يزعمه هؤلاء الحاقدون على الإسلام وأهله؟!
قول القِس: (وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في المدينة ... إلخ) أما مسألة يهود خيبر فإن فيه القول الكثير الذي لا يذكره المستشرقون فإنهم من ناحية كفرهم كمشركي قريش والله تعالى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بقتالهم وإخراجهم من خيبر بعد نزول قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
أما من الناحية الأخرى، فإن يهود خيبر لم يكونوا مسالمين مع المسلمين أبدًا، فقد ذهب إليهم كثير من زعماء بني النضير وظاهروهم على المسلمين وهم الذين حرضوا بعض القبائل على قتال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق مثل غطفان وغيرها بشرط أن يكون لهم نصف ثمر خيبر.
وقد أقرّ بهذه الحقيقة المستشرق "مونتغمري واط"[69] بقوله: "كان يهود خيبر وبخاصة رؤساء قبيلة بني النضير التي أجلاها الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة يضمرون الحقد لمحمد صلى الله عليه وسلم وهم الذين نجحوا في حمل قبائل العرب المجاورة على حمل السلاح على المسلمين والزحف عليهم، بما بذلوه من أموال وكان ذلك هو السبب الرئيس في توجه محمد إلى خيبر بجيوشه"[70].
أمّا تعليل مرجليوث أنّ سبب انتقام المسلمين من اليهود في غزوة خيبر هو قتلُ أحدِهم رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهو خطأ وافتراء عظيم على الحقائق التاريخية التي لاشك أنها لا تخفى على مرجليوث، ولكن التعصب يصم ويعمى، فالصواب الثابت تاريخياً أنّ قتل أحدِ يهود خيبر رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم -وهو عبد الله بن سهل- كان بعد غزوة فتح خيبر، وليس قبلها، حتى يكون سبباً للانتقام منهم، من هنا يتبين لنا التلبيس الذي يمارسه المتعصبون الحاقدون من المستشرقين.

15- زعمهم أن الحديث مزيج من عقائد الأديان السابقة وأفكارها من اليهودية والنصرانية، يقول بروكلمان[71]: "وأغلب الظن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد انصرف إلى التفكير في المسائل الدينية في فترة مبكرة جدًا، وهو أمر لم يكن مستغربًا عند أصحاب النفوس الصافية من معاصريه الذين قصرت العبادة الوثنية عن إرواء ظمئهم الروحي. وتذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أما في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد".
أقول: لا شك أن هناك تشابه بين الشرائع الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلامية، ولكنهم لم يستنتجوا حقيقة التشابه التي استنتجها "النجاشي" قبل ألف وخمسمائة عام!
إن هذا التشابه ما هو إلا دليلٌ على أن مصدر الوحي واحدٌ إلى جميع الرسل، فلما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي مطلع سورة مريم، فَبَكَى النَّجَاشِيُّ حتى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حتى أَخْضَلُوا مَصاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا ما تَلَا عَلَيْهِمْ ثمَّ قال النَّجَاشِيُّ: "إِنَّ هذا واللهِ والَّذِي جَاءَ بِهِ موسى لَيَخْرُجُ من مِشْكَاةٍ واحِدَةٍ"[72].
أما قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الشريعة من اليهود والنصارى، فهي تهمة قديمة جددها المستشرقون، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}.
ثم إنه لو كانت رسالة الإسلام مقتبسة من تلك الأديان لما جاء في كتاب الله تعالى الأمر بمخالفتهم ومحاربتهم، وعدم موالاتهم ونصرتهم، هذا فضلا عما اتصف به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدق وإخلاص لهذا الدين، فلو كان للقرآن علاقة بالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية من حيث الاقتباس، لرأينا الكثير من هؤلاء الصحابة ينقلون إلينا ذلك، ولكن لم يحدث شيءٌ من هذا، وهذا دليل على بطلان قولهم من أن السنة مزيج من العقائد والأديان السابقة.

15- زعمهم أن الأحاديث النبوية هي نتيجة التطور الديني، يقول جولد تسيهر: "إن القسم الأكبر من الحديث ليس صحيحًا ما يقال من أنه وثيقة للإسلام في عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود الإسلام في عهد النضوج"
ويقول "برنارد لويس"[73]: "لقد استحدثت طرق جديدة في الحياة مع مرور الزمن وتوسع البلاد الإسلامية، وظهرت حاجات أدت إلى أوضاع غريبة تمامًا على الحياة البسيطة والفكر الذي كان سائدًا في عصر الصحابة - وبالإضافة إلى ذلك فإن الأحداث الغريبة والتأثيرات الأجنبية التي كان لا بد من استيعابها وهضمها كان لا بد أن تحدث خللاً في التمسك بالمفهوم الجامد للسنة على أنها المعيار الوحيد للصدق والعدل".
نقول: إن هذا الكلام فيه كثير من اللغط والافتراء، لأن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن في منتصف طريق دعوته إلى الله، وإنما كان بعد أن أدى الرسالة وبلغ الأمانة، حتى نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً}، وقال عليه الصلاة والسلام: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه"[74]، وهذا يدل على أن التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كان بعد أدائه رسالة ربه للناس، وهذا يعني أن هذا الدين أُرسيت أصوله وأحكامه الثابتة في الحياة، وكان شريعة واضحة المعالم، لم تكن فيه مبهمات أو غموض أو أسرار، وإنما كان بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وإن التطور الذي حدث بعد عهد الرسالة كان في بعض الفروع والجزئيات التي ظهرت عندما توسعت رقعة الخلافة الإسلامية، وعندما فتح المسلمون البلاد الأخرى، فكان لا بد أن تعتريهم بعض الحوادث الجديدة التي لم يكن لها نص في القرآن أو السنة، فتعامل العلماء معها بطرق علمية متينة وقواعد معلومة تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله، كالإجماع والقياس وغيرهما من مصادر التشريع الإسلامي.
ومن ناحية أخرى لو نظر الإنسان إلى هذا الدين منذ عهد النبوة إلى الآن سيجد فيه حجة قوية على بقاء الأصول على حالها منذ ذلك الوقت، ووحدة المسلمين في أداء عباداتهم وشعائرهم مع اختلاف يسير في بعض فروعها، في جميع أرجاء العالم رغم تباين أقطارهم واختلاف لغاتهم وتمايز أعراقهم وأجناسهم، ولو كانت الأحاديث النبوية نتيجة التطور الديني والاجتماعي كما يدعي هؤلاء القوم، لوجدنا المسلمين في كل بلد بل في كل منطقة يختلفون في كيفية أداء الصلوات وعدد ركعاتها وأوقاتها وكذلك الصيام والحج وغيرها من العبادات، ولكن الله تعالى أراد لهذا الدين أن يكون هكذا إلى يوم الدين.


[1] موقف الاستشراق من السُنَّة والسيرة النبوية، أكرم ضياء العمري ص55-56 بتصرف يسير.
[2] في حين يعود به آخرون إلى أيام الصليبيين، بينما يرجعه كثيرون إلى أيام الدولة الأموية في القرن الثاني الهجري. وأنه نشط في الشام بواسطة الراهب يوحنا الدمشقي John of Damascus في كتابين الأول: حياة محمد. والثاني: حوار بين مسيحي ومسلم. وكان هدفه إرشاد النصارى في جدل المسلمين. (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والفرق المعاصرة 2/687).
[3] مثال ذلك: الفلكي والشاعر والمهندس عباس بن فرناس كان قد سبق الأخوين رايت بألف عام في صناعة آلة للطيران، ويرجع الفضل للعالم المسلم الحسن بن الهيثم في اختراع النظارات، وكل الأدوات المستخدمة في الجراحة والتشريح اليوم هي نفسها التي اخترعها العالم الزهراوي في القرن العاشر الميلادي وهو أول من اكتشف الخيطان المستخدمة في العمليات الجراحية والتي تذوب في الجسم بعد العملية، واكتشف ابن النفيس الدورة الدموية في القرن الثالث عشر قبل هارفي بثلاثمائة سنة، لم تكن الكثير من الاختراعات التكنولوجية والهندسية الحديثة لترى النور دون علم الجبر، الذي عرفته أوروبا خلال القرن الثاني عشر الميلادي، عندما ترجم البريطاني روبرت أوف تشيستر كتاب "المختصر في حساب الجبر" للخوازرمي من العربية إلى اللاتينية، حتى كلمة (algebra) الإنجليزية التي تشير إلى هذا العلم مشتقة من "الجبر" العربية، وابن حزم اكتشف أن الأرض كوكب يدور قبل العالِم الغربي غاليلي بخمسمائة عام وأن الفلكيين العرب كانوا يحسبون حركة الأفلاك بدقة متناهية، وكان العالم الإسلامي الأدريسي قدم للملك روجر في صقلية الإيطالية كرة أرضية مرسوماً عليها أقاليم وبلدان العالَم في القرن الثاني عشر الميلادي.
[4] الاستشراق والمُسْتَشْرِقُونَ ما لهم وما عليهم، مصطفى السباعي ص17-19
[5] انظر: المصدر السابق ص20
[6] انظر إليهم كيف يُشَجِّعُون في بلادنا القوميات التاريخية التي عفى عليها الزمن، واندثرت منذ حمل العرب رسالة الإسلام، فتوحَّدتْ لغتهم وعقيدتهم وبلادهم، وحملوا هذه الرسالة إلى العالم فأقاموا بينهم وبين الشعوب روابط إنسانية وتاريخية وثقافية ازدادوا بها قوة، وازدادت الشعوب بها رِفْعَةً وهداية، إنهم ما برحوا منذ نصف قرن يحاولون إحياء الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا ولبنان وفلسطين، والآشورية في العراق وهكذا، ليتسنَّى لهم تشتيت شملنا كأُمَّةٍ واحدة.
[7] اقرأ حول هذا الموضوع كتاب: "أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير - الاستِشراق – الاستعمار" تأليف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (المتوفى: 1425هـ).
[8] الموسوعة الميسرة 2/695
[9] وقد وصل بعض هؤلاء إلى الإسلام ودخل فيه، منهم:
1-توماس أرنولد الذي أنصف المسلمين في كتابة "الدعوة إلى الإسلام".
2-المستشرق الفرنسي رينيه فقد أسلم وعاش في الجزائر وله كتاب "أشعة خاصة بنور الإسلام" مات في فرنسا لكنه دفن في الجزائر.
[10] الموسوعة الميسرة 2/296
[11] موسوعة أكاديمية تعنى بكل ما يتّصل بالحضارة الإسلامية، سواء من الناحية الدينية أو الثقافية أو العلمية أو الأدبية أو السياسية أو الجغرافية على امتداد العصور، بما في ذلك العصر السابق للإسلام، وقد تم إصدارها على طبعتين، الأولى بين 1913 و1938، والثانية ما بين 1954 و2005، ويتم إصدارها من قبل شركة بريل الهولندية. وقد ظهرت هذه الموسوعة بأكثر من لغة، أما بالنسبة للعربية فقد تم تعريب بعض أجزائها وتنقيحها وصدرت في مصر في الستينات، ساهم في كتابة هذه الموسوعة عدد كبير من المستشرقين والمؤرخين وخبراء الدراسات الإسلامية في الغرب.
[12] في مذكراته ( ص 303-304)
[13] وهي سلسة كتب (فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام).
[14]  اقتبست مقولات المستشرقين من عدة أبحاث، منها: (الرد على شبهات المستشرقين ومن شايعهم من المعاصرين حول السنة) أحمد محمد بوقرين، وكذلك: (الاستشراق وموقفه من السنة النبوية) للدكتور فالح الصغير.
[15]  صحيح البخاري (113).
[16]  متفق عليه، أخرجه البخاري (2434)، ومسلم (1355).
[17] انظر كتاب "صحائف الصحابة وتدوين السنة النبوية المشرفة" لأحمد عبد الرحمن الصويان.
[18] أهل اللغة يفرقون بين معنى التدوين ومعنى التصنيف، إذ بمعرفة ذلك يزول كثير من اللبس:
فالتدوين: هو تقييد المتفرق المشتت، وجمعه في ديوان أو كتاب تجمع فيه الصحف.
أما التصنيف: فهو أدق من التدوين إذ هو ترتيب ما دُوِّنَ في فصول محدودة وأبواب مميزة.
انظر: "تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره" ص74 للدكتور محمد مطر الزهراني.
[19]  للاستزادة انظر كتاب: "فوائد في علوم الحديث وكتبه وأهله" لأبي العلى المباركفوري، بعناية الدكتور عبد العليم البستوي.
[20] أخرجه البخاري (4679)
[21] أخرجه أبو داود (4604)، وأحمد (17174) وصححه الألباني.
[22] حديث أبي سعيد الخدري: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" الحديث الذي أخرجه مسلم مرفوعاً، وقد أعلَّه أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد.
[23] تقول: "فلانٌ مثل الأسد" تقصد الشجاعة، ولست تعني المثلية من كل وجه.
[24] فتح الباري 1/208
[25] سمع عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قصيدة عمر بن أبي ربيعة فحفظها من أول مرة، وهي من خمسة وستين بيتاً !، وهذا في شِعر، فما بالك بحاله عند سماع النبي صلى الله عليه وسلم يقول حديثاً؟! والنماذج على قوة الحفظ كثيرة جداً.
[26] أخرجه أبو داود (3659)، وأحمد (2947) وصححه الألباني.
[27] أخرجه البخاري (3461).
[28] أي: علمكم حتى كيف يقضي أحدكم حاجته.
[29] قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/266: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة.
[30] حسنه الألباني في صحيح الترغيب (121).
[31] انظر تفسير ابن الجوزي عند هذه الآية.
[32]  انظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي ص10
[33] صحيح الجامع (893)
[34]  متفق عليه
[35]  أخرجه ابن ماجه (12) وصححه الألباني.
[36] حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1272).
[37] أخرجه أبو داود (4344) وصححه الألباني.
[38] قال الجوزجاني: كان فيما سمعت غير واحد يقول: يضع الحديث.
[39] أبو عبد الله محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي المهدي بالله. هو ثالث خلفاء الدولة العباسية (توفي 169 هـ).
[40] الحديث صحيح من غير زيادة (أو جناح)، أخرجه أبو داود (2574) وصححه الألباني.
[41] المدخل إلى كتاب الإكليل ص55
[42] أبو جعفر هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، بويع بالخلافة ليلة الجمعة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي عام 170 هـ، (توفي 193هـ)
[43] أبو إسحاق الفزاري إبراهيم بن محمد كان مولده بواسط سكن الشام مات سنة ست وثمانين ومائة كان من الفقهاء والعباد والحفاظ والزهاد ممن عنى بالعلم ولزم الورع والحلم ورابط بالثغر إلى أن مات.
[44] عبد الله بن المبارك مولى بنى حنظلة من أهل مرو أبو عبد الرحمن كان مولده سنة ثماني عشرة ومائة وكان أحد الائمة فقها وورعا وعلما وفضلا وشجاعة ونجدة ممن رحل وجمع وصنف وحدث وحفظ وذاكر ولزم الورع الخفي والصلابة في الدين والعبادة الدائمة مع حسن العشرة واستعمال الادب إلى أن مات منصرفا من طرسوس في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة.
[45] تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 273
[46] ميزان الاعتدال 1/616
[47] ميزان الاعتدال 3/ 319
[48] انظر كتاب "ضوابط الجرح والتعديل" تأليف/ الدكتور عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم العبد اللطيف.
[49] محمد أسد (ليوبولد فايس سابقاً) ولد في الإمبراطورية النمساوية الهنغارية عام 1900، وتوفي في إسبانيا عام 1992م. وهو كاتب وصحفي ومفكر ولغوي وناقد اجتماعي ومصلح ومترجم ودبلوماسي ورحالة مسلم (يهودي سابقاً) درس الفلسفة في جامعة فيينا؛ وقد عمل مراسلاً صحفياً وبعد منحه الجنسية الباكستانية تولى عدة مناصب منها منصب مبعوث باكستان إلى الأمم المتحدة في نيويورك. وطاف العالم، ثم استقر في إسبانيا وتوفي فيها ودفن في غرناطة. ويعتبر محمد أسد أحد أكثر مسلمي أوروبا في القرن العشرين تأثيراً.
[50] الجرح والتعديل 1/351
[51] تاريخ بغداد (4/ 380)
[52] سير أعلام النبلاء (3/ 209)
[53] مقدمته على الفوائد المجموعة للشوكاني (ص8).
[54] انظر كتاب "مقاييس نقد متون السنة" للدكتور مسفر بن غرم الله الدميني.
[55] وبعضها حدث فعلاً
[56] غوستاف لوبون (7 مايو 1841 - 13 ديسمبر 1931) كان طبيب ومؤرخ فرنسي، عمل في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، كتب في علم الآثار وعلم الانثروبولوجيا، وعني بالحضارة الشرقية.
[57] أخرجه النسائي (3939) وصححه الألباني.
[58] حضارة الغرب، غوستاف لوبون، ص142، وقريب من هذا الاتهام قاله جولد تسيهر.
[59]  نضرة النعيم 1/ 231
[60] الرحيق المختوم ص 50
[61] أخرجه مسلم في صحيحه (2426)
[62] "الفصول في سيرة الرسول"  لابن كثير(104).
[63]  أخرجه مسلم (177)
[64] ديڤيد مرجليوث (1858-1940 م) كان مستشرقاً ولفترة قصيرة عمل قساً في كنيسة إنجلترا، كان أستاذاً لتدريس اللغة العربية في جامعة أكسفورد من 1889 إلى 1937.
[65]  الرحيق المختوم ص94
[66] جمع منيحة وهي الشاة أو الناقة التي تعطي للغير ليحلبها وينتفع بلبنها ثم يردها على صاحبها.
[67] أخرجه مسلم (1479)
[68] الرحيق المختوم ص 372
[69]  وليام مونتغمري واط (1909 - 2006) هو مستشرق بريطاني عمل أستاذا للغة العربية والدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي بجامعة إدنبرة في إدنبرة-اسكتلندا.
[70] السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص352
[71] كارل بروكلمان (1868 - 1956) مستشرق ألماني ولد في مدينة روستوك، بدأ دراسة اللغة العربية وهو في المرحلة الثانوية، واهتم بدراسة التاريخ الإسلامي، ومن أشهر مؤلفاته كتاب "تاريخ الأدب العربي".
[72]  أخرجه أحمد (1740).
[73] برنارد لويس -( 1916 - 2018) من مواليد لندن ببريطانيا. هو أستاذ فخري بريطاني-أمريكي لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون. وتخصص في تاريخ الإسلام والتفاعل بين الإسلام والغرب وتشتهر خصوصا أعماله حول تاريخ الدولة العثمانية، هو أحد أهم علماء الشرق الأوسط الغربيين التي طالما ما سعى صناع السياسة من المحافظين الجدد مثل إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى الحصول على استشارتهم.
[74]  حسنه الألباني في " منزلة السنة" (13).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق