الأحد، 30 أبريل 2023

شرح البيقونية (19) الحديث المعضل

 

الـمُعْضَل


18 – والـمُعْضَلُ الساقِط مِنه اثنانِ …

المعضل لغة: اسم مفعول من أعضله بمعنى أعياه، أَعْضَلَهُ الْأَمْرُ، يعني: أعياه الأمر، وَالْمُعْضِلَاتُ: الشَّدَائِدُ[1].

واصطلاحاً: ما سقط من إسناده اثنان أو أكثر على التوالي، في أي موضع؛ من أوله أو وسطه أو آخره[2].

أما إذا لم يتوال فيُسمى: منقطع من موضعين[3].

مثاله: ما رواه عبد الرزاق[4] في مصنفه عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ * *: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِفَتًى وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ عُمَرُ: يَا فَتَى، يَا فَتَى! ثَلَاثًا، حَتَّى رَأَى عُمَرُ، أَنْ قَدْ عَرَفَ صَوْتَهُ: تَقَدَّمْ إِلَى السُّارِيَةِ، لَا يَتَلَعَّبِ الشَّيْطَانُ بِصَلَاتِكَ، فَلَسْتُ بِرَأْيٍ أَقُولُهُ، وَلكنْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.

فهذا إسناد معضل؛ لأن ابن جريج أسقط منه راويين أو أكثر؛ شيخَه وشيخَ شيخِه، فليس أحدٌ من شيوخه يروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا بواسطة راو أو أكثر.

وكثير من البلاغات تعتبر من قبيل الحديث المعضل، والبلاغ: هو أن يقول الراوي بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو عن الصحابي الفلاني، وهي كثيرة في موطأ الإمام مالك بن أنس[5].

مثاله: قول الإمام مالك: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْعُكُوفَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ، اعْتَكَفَ عَشْراً مِنْ شَوَّالٍ[6].

حكم الحديث المعضل: ضعيف بإجماع العلماء[7]، فهو أسوأ حالاً من المرسل والمنقطع؛ وذلك لكثرة المحذوفين من الإسناد.

من مظان وجود الحديث الـمُعضل:

قال السيوطي: "من ‌مظان ‌المعضل، ‌والمنقطع، والمرسل، كتاب السنن لسعيد بن منصور، ومؤلفات ابن أبي الدنيا"[8].

 



[1] مقاييس اللغة (4/ 346)

[2] مقدمة ابن الصلاح (ص59)

[3] تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/ 241)

[4] مصنف عبد الرزاق (2/ 303) برقم: 2381

[5] صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع، والمعضل. قال: وجميع ما فيه من قوله بلغني، ومن قوله، عن الثقة عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثا، كلها مسندة من غير طريق مالك، إلا أربعة لا تعرف. (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/ 242)

[6] موطأ مالك - رواية يحيى (3/ 455 ت الأعظمي). وسماه الخطيب البغداددي في بعض كلامه "مرسلا"، وذلك على مذهب من يسمي كل ما لا يتصل مرسلا.

[7] تيسير مصطلح الحديث (ص93)

[8] [تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/ 244)]

الأحد، 2 أبريل 2023

ضاع الشهر !

 ضاع الشهر!


من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم مواسم الخيرات يتزودون من الحسنات ليوم معادهم ، ويتوبون من ما اقترفوا من السيئات.

ومن أعظم تلك المواسم شهر رمضان المبارك، ففيه تفتح أبواب الجنات وتغلق أبواب النار، وتصفد فيه الشياطين، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

فحري بالمسلم إذا علم فضائل هذا الشهر أن يتفرغ فيه قدر الإمكان لحفظ صيامه، والخشوع في صلاته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.

لكن الناظر لواقعنا اليوم يجد أن كثيراً من الناس على خلاف ذلك تماماً، فقد انصرف كثير منهم إلى أمور أخرى تصدهم وتصرفهم عن نفحات هذا الشهر المبارك، وقد تأملت تلك الصوارف فدونتها، وهذه أبرزها:

1-الزيارات

التواصل مع الأصدقاء والأقارب، وصلة الرحم شيء عظيم، ولكن ليس واجباً أن يكون في شهر رمضان، وليس واجباً إن أردت أن تهنئ الناس بهذا الشهر أن تزور أرحامك كلهم، ومعارفك جلهم، بل يكفي أن تذهب لمكان يجمعهم مثلاً، بل يكفيك اتصالٌ أو رسالةٌ.

فغالب الناس اليوم ينشغلون في الثلث الأول من رمضان بالزيارات إلى ما بعد منتصف الليل، ويرجعون منهكين، فماذا بقي -بالله عليك- للعبادة وقراءة القرآن.

ويا ليت تلك الزيارات تسلم من الكلام في الناس، والخوض في المحرمات.

2-القرقيعان:

حين تدخل العشر الوسطى من شهر رمضان يأتي صارف جديد، ألا وهو "القرقيعان" عادة فاطمية أو نصرانية، تستهلك وقت الأُسر، وجيوبَهم.

تنشغل الأم -منذ بداية الشهر- بشراء ملابس القرقيعان لأولادها بأغلى الأثمان، مع حرصها أشد الحرص أن لا يكون هناك أجمل من لباس أولادها، حتى الأم والبنات أنفسهم قد يكون لهم نصيب من لباس القرقيعان، مع ما يشوبه من تبرج، مع توزيع الحلوى والكاكاو الغالي النفيس.

فدخل الناس في هذه العادة في بدعة وإسراف ومضيعة وقتٍ وتبرج!

3-الغبقات:

الغبة هي وليمة طعام كبيرة تكون الدَّعوة فيها عامة، فيتكلف صاحب الوليمة من أجل ذلك المصاريف الكبيرة.

وليت الأمر توقف على هذا فقط، بل تكون هناك منافسة على أشدها بين العوائل، كلٌ ينافس الآخر من أكثر مالاً وأعز نفراً؟! ومن خير مقاماً وأحسن ندياً؟!

وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن طعام المتبارين أن يؤكل!" [انظر: صحيح الجامع 6965 ]

"والمُتباريانِ هما المتعارِضانِ بفِعليهما؛ ليُرَى أيُّهما يَغلِب صاحبَه، فيُقيمُ كلُّ واحدٍ منهما الوليمةَ والضِّيافةَ ويُرادُ بها الفَخْرُ والسُّمْعَةُ والمباهاةُ والرِّياءُ، ولا يُرادُ بها وجْهُ اللهِ، بل يُريدُ مُقيمُ الطَّعامِ أنْ يُسابِقَ غيرَه في مباراةِ الفخرِ والرِّياءِ؛ حتَّى يُعجِزَه أنْ يَصنَعَ مِثْلَه".

فانظر يا رعاك الله كيف ضاع رمضان ما بين زيارات مبالغ فيها، وقرقيعان، وغبقات، إلى جانب أمور أخرى كالمسلسلات الرمضانية، والحفلات الغنائية، وسهرات ليالي رمضان!!

فهذه تذكره لتدارك هذا الشهر العظيم من أن يضيع سدى، في أمور محرمة، أو أمور على الأقل يمكن تداركها في غير هذا الشهر الثمين، كالعيد أو بقية أيام السنة.


أسأل الله تعالى بمَنِّهِ وكرمه أن يوفقنا لصيام رمضان وقيامه وأن يتقبله منا.

الخميس، 28 يوليو 2022

الخمر والمسكرات

 

الخمر والمسكرات[1]

حديثنا اليومَ عن آفة خطيرة، وفتنة مستطيرة، وبليّة عظيمة، تفسد الدينَ، وتفني المال، وتهدم الخُلُق، وتُمرض البدن؛ إنها آفة المخدّرات والمسكرات بأنواعها، فهي أمّ الخبائث، ومجمع المصائب، فكم أغوتْ من إنسان، وهدمتْ من بيت، ويتّمت من أولاد، وأرملت من نساء، وأسفرت عن جريمة، وأهلكت من مال، وضيّعت من عيال؛ ولذلك جاءت الشريعةُ الإسلامية الحكيمة بتحريمها، والتحذير منها، وعقوبةِ متعاطيها، بل جعلتها من كبائر الذنوب، وحبائل الشيطان[2].

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة].

في هذه الآية الكريمة يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة ويخبر أنها من عمل الشيطان وأنها رجس، والخمر كل ما خامر العقل أي غطاه بسُكْره.

ولا شك أن الجميع يعرف أن الخمر وجميع المخدرات والمسكرات حرام، ولكني انطلق في الكلام عن هذا الموضوع لحديثٍ عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول فيه -فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضي اللهُ- عنه: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ»

فقوله: "يستحلون" تشير إلى أنه سيأتي أقوام يستحلون الزنا، ولبس الحرير، وشرب الخمر، وسماع المعازف، تحت أي مسمى، وأي مسوغ!

وجاء الوعيد الشديد لمن شرب الخمر كما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ - وَجَيْشَانُ مِنَ الْيَمَنِ - فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنَ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَوَ مُسْكِرٌ هُوَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ».

وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أي: نفي كمال الإيمان في تلك اللحظة، لكنه يكون ناقصا نقصا بينا استحق به أن يوصف بالنفي[3].

وروى النسائي في سننه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ»[4].

وشارب الخمر ملعون على لسان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ: وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ».

وقال عثمان - رضي الله عنه -: "الخمر مجمع الخبائث"، ثم أنشأ يحدث عن بني إسرائيل قال: :"إن رجلا خُيِّرَ بين أن: يقتل صبيا، أو يمحو كتابا -أي: يتلف كتابهم المقدس-، أو يشرب خمرا؟ فاختار أن يشرب الخمر، ورأى أنها أهونهن، فشربها، فما هو إلا أن شربها حتى صنعهن جميعا"[5].

وذكر ابن هشام في سيرته[6]: أن الشاعر الجاهلي "أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ" مَدَحَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قصيدة له، وذهب إليه يريد أن يُسْلِمَ، فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم، فقال له:

يا أبا بصير، إن محمداً يحرم الزنا! فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أَرَبٍ.

فقال له: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر! فقال الأعشى: أما هذه فوالله إنَّ في النفس منها لَعُلَالَاتٍ[7]، ولكني منصرف فَأَتَرَوَّى منها عامي هذا، ثم آتيه فَأُسْلِمُ.

فانصرف فمات في عامه ذلك، ولم يَعُدْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!

إنَّ شُــربَ الخـمــرِ لــلــمــرءِ فـِـتـَنْ    ودلــيـــلٌ للـمعــاصــي والــفِــتــَــنْ

فانْبِذِ الرِّجسَ الخبيثَ الممتهنْ    واهجُر الخَمْرَةَ إنْ كنتَ فتىً

كيف يسعى في جنونٍ مَنْ عَقَلْ

فَــــــــلَـــــهـــا اللهُ تــــــعـــــــالى حَـــــرَّمــــا     والــــذي يـَــقْـــرَبــُــهــا قــد ظَــلَما

فَــهْــيَ أُمُّ الــخُـبْثِ لحْماً ودَمَا     واتــقِ اللهَ فــتـــقـــوى اللهِ مَـــــــــــــا

       بـاشَرَتْ قَلْبَ امْرئٍ إلا وَصَـــلْ

والخمر أم الخبائث، ومفتاح كل شر وفساد، ويلحق بالخمر جميع أنواع المخدرات من الحشيش والكوكايين، والأفيون، والهروين، وكذلك الحبوب التي دمرت كثيراً من شباب المسلمين اليوم يدسها الأعداء لإضعاف قوة المسلمين، وإبعادهم عن دينهم، مع أن هذه الحبوب حتى عند المجتمعات الكافرة ممنوعة ومتعاطيها إن استمر عليها فلا بد أن يصيبه الجنون وهذا مشاهد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الحشيشةَ حرامٌ يُـحَدُّ متناولها كما يُـحَدُّ شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر؛ من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد».

-وقيل للعباس بن مرداس بعدما كبر، وقبل أن يُسلم: ألا تأخذ من الشراب فإنه يزيد من جرأتك ويقويك؟ قال: أصبح سيدَ قومي وأمسي سفيههم؟! لا والله، لا يدخل جوفي شيء يحول بيني وبين عقلي أبدًا[8].

-وقال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلاً وهو يحتضر، فجعل يُلقَّن الشهادتين، فيأبى ويقول: هو كافر بها، قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر!

واتفق الأطباء -مسلمهم وكافرهم- على التحذير من تناول المسكرات؛ خمراً كانت أم مخدرات.

حتى أن بعض الدول الغربية أيقنت أن المسكرات والمخدرات فسادها عظيم، وخطرها عميم، فقد تم منع الكحول في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1920م لما رأوا ضررها وفسادها، إلا أنهم أعادوا بيعها سنة 1933م، لأن تجارة الخمور تدر أرباحاً كبيرة، وضرائب كثيرة!

وديننا لم يُنكر أن للخمر منافع دنيوية "محدودة"، وإنما حرمها الله سبحانه لأنه ضرراها أعظم من نفعها، وقُل مثلك ذلك في القِمار؛ قال الله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ ‌نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].

وأختم بالتذكير بعظم الأمانة والمسؤولية الملقاة على الآباء والمسؤولين فإن هذه الفتنة قد كثرت وانتشرت حتى في بلاد المسلمين واضطرت الحكومات والدول أن تنشئ لها المصحات والمستشفيات.

وقد تبين أن من أعظم أسباب الوقوع فيها إهمال أولياء الأمور من الآباء والأمهات مراقبة الأولاد وضعف التربية وترك المجال لهم لمصاحبة رفقاء السوء، ودعاة الرذيلة، فليُحذر من ذلك وليؤخذ بأسباب النجاة.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يحفظ شبابنا وشباب المسلمين من هذا الخطر الجسيم، والإثم العظيم، إنه هو الرحمن الرحيم ..

 

 



[1] انظر: [الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة (4/ 313) "‌‌الكلمة التاسعة والأربعون: أضرار المخدرات والمسكرات".]

[2] مقدمة خطبة: "التحذير من المسكرات والمخدرات" من موقع الألوكة: https://cutt.us/5rS2H

[3] [فتاوى نور على الدرب للعثيمين (6/ 2 بترقيم الشاملة آليا)]

[4]  أخرجه النسائي (2562) بنحوه مطولاً، وأحمد (5372) واللفظ له

[5] [موسوعة ابن أبي الدنيا 5/ 254]

[6] [سيرة ابن هشام ت السقا (1/ 388)]

[7] يعني: ما زالت شهوة شرب الخمر في نَفْسِه.

[8] [موسوعة ابن أبي الدنيا 5/ 265]

الجمعة، 22 يوليو 2022

العفو والإعراض عن الجاهلين

العفو والإعراض عن الجاهلين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

أخرج أبو داود في السنن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "‌إنّ ‌الله ‌خَلَق ‌آدمَ ‌مِن ‌قبضةٍ ‌قبضها ‌من ‌جميعِ ‌الأرضِ، فجاءَ بنو آدَمَ على قَدْرِ الأرض: جاء منهم الأحمرُ، والأبيضُ، والأسودُ، وبين ذلك، والسَّهلُ، والحَزْنُ[1]، والخبيثُ، والطَّيِّبُ، وبين ذلك"[2].

يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن طبيعة تركيبة الناس، الجسمانية، والنفسية، وأنهم متفاوتون في ذلك؛ فكما يرى البصر اختلاف الناس في ألوانهم وأشكالهم، فلتُدرك البَصيرة اختلافَ باطنهم كذلك.

صحيح أن الإنسان لا يُحاسب على صورته وشكله، ولكنه محاسب على باطنه وقصده؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ"[3].

صحيح أن الله تعالى هو الذي قدر علينا الأشكال والطِّباع؛ إلا أنه أمرنا بتطهير باطننا وتزكية نفوسنا؛ لأن هذا من أنواع الابتلاء؛ قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ ‌دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10]

أما تغيير الشكل بعمليات التجميل -من غير ضرورة- فهذا أمر الشيطان وليس أمر الرحمن، قال تعالى عن الشيطان: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: 119]

فإذا عُلم ما سبق ... فلا تعجب إن صادفت في حياتك أنواعاً من الناس خبيثةٌ أخلاقهم، جافيةٌ طباعهم، وعليك بهدي القرآن، وسنة النبي العدنان في معاملة أولئك الطَّغَام.

يقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلينَ} [الأعراف: 199]

أي: اِقْبَلْ من الناس ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، ولا تكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا، وأْمر بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل، وأعرض عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة الأغبياء، ولا تقابلهم بجهلهم، فمن آذاك فلا تؤذه، ومَن حَرَمَكَ فلا تَحْرِمْه.

وتجاوز عن المقولات الجارحة، والأفعال التافهة .. {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وهو الإعْراضُ الخالِي مِن جَزَعٍ وفُحْشٍ.

واطلب الثواب على صبرك واحتمالك من الله سبحانه؛ لأنه أمرنا بذلك، وهو المجازي عليه، قال جل شأنه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ألَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النور: 22] فإن كنت ترجو مغفرة الله تعالى، وتحب عفوه سبحانه فعامل الناس بما تحب أن تُعامَل.

في الصحيحين عن أمِّنا عائشة رضي الله عنها: أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم: هَلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أشَدُّ مَا لَقيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْني إِلَى مَا أرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأنا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إِلَاّ وأنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبريلُ - عليه السلام - فَنَادَاني 

فَقَالَ: إنَّ الله تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَد بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ قَدْ سَمِع قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأنا مَلَكُ الجِبال، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبِّي إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إنْ شئْتَ أطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ.

فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم: بَلْ أرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»[4].

«الأخْشَبَان»: الجَبَلان الـمُحيطان بمكَّة.

هذا هو خُلُق الأنبياء، وطبائع المقربين الأصفياء، أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قَالَ: كأني أنظر إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنبياءِ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُه عَلَيْهِمْ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» متفقٌ عَلَيْهِ.

فلا تعجب إذاً عندما تسمع حديث عائشة رضي الله عنها وهي تقول: "مَا ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأةً وَلَا خَادِمًا، إِلَاّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَاّ أن يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ تَعَالَى، فَيَنْتَقِمُ للهِ تَعَالَى" رواه مسلم[5].

ويخبرنا خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه عن عجيب حلمه، وجميل صُنعه عليه الصلاة والسلام، فيقول:

"كُنْتُ أمشي مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أعْرَابِيٌّ فَجَبذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُر لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بعطاء". متفقٌ عَلَيْهِ

قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّديدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» متفقٌ عَلَيْهِ.

اللهم اهدنا لِأحسَنِ الأخلاقِ لا يهدي لِأحسَنِها إلَّا أنتَ، واصرِفْ عنّا سيِّئَها لا يصرِفُ عنّا سيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

 

اللهم آمين



[1] السَّهلُ: أي: اللَّيِّن الرَّفِيق، والحَزْنُ: وغَلِيظ الطَّبْع الجَافِي العَنِيف.

[2] أخرجه أبو داود (4693) وصححه الألباني.

[3] أخرجه مسلم (2564).

[4] أخرجه: البخاري (3231)، ومسلم (1795)، (111).

[5] أخرجه في الصحيح برقم: (2328)