الأربعاء، 1 أكتوبر 2025

 زهرة التوليب والبيتكوين .. حين تتكرر الفقاعات بثياب مختلفة


في تاريخ الاقتصاد العالمي، ظهرت أزمات مالية متشابهة في جوهرها رغم اختلاف الزمان والمكان، تتكرر فيها ذات الملامح: ارتفاع جنوني في الأسعار، مضاربة محمومة، وثقة نفسية هشة، ثم انهيار مفاجئ يطيح بالثروات ويكشف هشاشة الأسس التي بُنيت عليها هذه الأسواق.

من العصر الهولندي الذهبي، مرورًا بـالكويت في ثمانينيات القرن الماضي، وصولًا إلى العملات الرقمية في العصر الحديث، تتجلى أمامنا نماذج لفهم كيف تتحول الأسواق إلى فقاعات اقتصادية إذا غابت الرقابة الكاملة، وسادت شهوة الربح السريع.

فقاعة التوليب: زهور تُباع بثمن القصور!

في ذروة العصر الذهبي الهولندي، بين عامي 1634 و1637، اجتاحت البلاد موجة جنون استثماري تُعرف بـ "فقاعة التوليب"، حيث تحوّلت زهرة التوليب النادرة المجلوبة من ديار العثمانيين إلى سلعة مضاربة لا مثيل لها؛ حيث كانت رمزاً للثراء "المزيّف"، تجاوزت أسعار بعض بُصيلات التوليب في تلك الفترة قيمة المنازل الفاخرة، بل وجرى تداول العقود الآجلة لها كما لو كانت سبائك ذهبية.

تسارع الناس إلى شراء "التوليب" على آثار بعضهم يُهرعون .. لم يكن الغرض من الشراء اقتناء الزهور أو زراعتها، بل فقط إعادة بيعها بسعر أعلى، مدفوعين بأمل الثراء السريع، وفي لحظةِ شَكٍّ .. انهار السوق، وانهارت معها الثروات الورقية، ليكتشف الناس أنهم كانوا يبيعون الوَهْم لبعضهم البعض!

أزمة سوق المناخ: أسهم على الورق وثقة بلا أساس!

بعد أكثر من ثلاثة قرون من الحادثة الهولندية، شهدت الكويت ظاهرة مشابهة في صورة أزمة سوق المناخ عام 1982؛ ففي سوق "غير رسمي"، وخارج "الرقابة المالية"، نشطت حركة بيع وشراء لأسهم شركات أغلبها لا يملك إنتاجًا حقيقيًا، بل كان مدفوعًا بالمضاربة والعقود الآجلة المفتوحة.

ارتفعت آنذاك الأسعار بصورة خيالية حتى فقدت أي صلة بقيمتها الواقعية -كزهرة التوليب- وعندما بدأت الثقة تتآكل، انهار السوق سريعًا، وانكشف حجم الكارثة: شيكات مؤجلة بمليارات، وخسائر شخصية ومؤسسية ضخمة، واضطرت الدولة إلى التدخل لاحتواء الأزمة، كانت النتيجة درسا قاسيًا عن خطورة الأسواق غير المنظمة عندما تستولي عليها شهوة الربح بلا ضوابط.

العملات الرقمية: فقاعة بثوب رقمي!

في العقدين الأخيرين، ظهرت العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين، كظاهرة مالية جديدة جذبت أنظار المستثمرين حول العالم، ورغم أن هذه العملات تستند إلى تقنيات متقدمة مثل "البلوك تشين"، إلا أن طبيعة التداول فيها -خصوصًا في مراحل الصعود الحاد- أظهرت تشابهًا لافتًا مع الأزمات السابقة؛ فالمضاربة الواسعة، والتوقعات النفسية الجامحة، والشراء بدافع اللحاق بركب الثراء، كلها سمات تكررت.

وقد شهدت البيتكوين وغيرها من العملات ارتفاعات مذهلة وانهيارات عنيفة في فترات قصيرة، مما يعكس هشاشة جزء كبير من هذا السوق، خاصة في ظل غياب التنظيم الصارم والاعتراف الحكومي الشامل.

الشريعة ونظرتها الاستباقية ..

ومن أجل كل هذه الدروس المتكررة، جاءت الشريعة الإسلامية بمنهج استباقي يُحصّن السوق من مثل هذه الكوارث؛ فنهى النبي ﷺ عن صور عديدة من البيوع التي تقوم على الغرر والجهالة والمقامرة، كـ "بيع الغرر"، و"بيع ما لا تملك"، و"بيع ‌حَبَلِ ‌الْحَبَلَةِ"[1]، لما في هذه المعاملات من مخاطرة مفرطة وأوهام ربحية قد تُفضي إلى الفساد والظلم.

خلاصة المشهد ..

من زهور التوليب إلى أسهم المناخ إلى العملات الرقمية، تتكرر الظاهرة: فقاعة تبدأ بمؤشر طمع، ثم تتضخم بالتوقعات النفسية، وتنتهي بانفجار مؤلم، وكلما غاب التنظيم، وضعُف "الوعي الجَمْعي"، وزاد الاعتماد على "سلوك القطيع" .. أصبحت الأسواق أكثر عرضة للانهيار.



[1] بيع ‌حبل ‌الحبلة: هو بيع كان يتبايعه أهل الجاهلية، يبيع أحدهم ناقته بحمل ناقة أخرى، أو بولد ولدها، أو يبيع ولد الولد، فيقول: بعتك ولد ما في بطن هذه الناقة، إذا حملت هذه الناقة ثم حملت الناقة التي تلدها، فإذا ولدت بكرة فإني أبيعك ذلك المولود، ولا شك أن هذا غرر؛ لأنه بيع معدوم، قد يحصل وقد لا يحصل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق