الأحد، 21 يونيو 2020

شرح البيقونية (16) المرسل


المرسل


16 - وَمُرْسلٌ مِنْهُ الصِّحَابِيُّ سَقَطْ ...

المرسَل لغةً: هو اسم مفعول من "أرسَل" بمعنى "أطلق"، فكأن المرسِل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف.

اصطلاحاً: هو ما رواه التابعيُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[1].

مثاله:

قول عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَليهِ وسَلم أَمَرَ بِلاَلاً عَامَ الفَتْحِ فَأَذَّنَ فَوْقَ الكَعْبَةِ[2].

عروةُ لم يُدرِك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لأنه تابعي، والتابعي مَن صَحِبَ الصحابيّ.

فهل نقبل الحديث السابق أم نرده؟

قال بعض العلماء: نقبل الحديث المرسل؛ لأن جيل التابعين خير الأجيال بعد جيل الصحابة؛ قال الحاكم: "خير الناس قرنا بعد الصحابة من شافه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ عنهم الدين والسنن"، والغالب أنهم سمعوا تلك الأحاديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يعرفون الكذب والتدليس، فلذلك نقبل تلك الأحاديث المرسلة[3].

وقال آخرون: لا نقبل الحديث المرسل؛ لأنه قد وُجِد من التابعين مَن يروي عن تابعي آخر، عن الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل وجد في التابعين مَن يروي بعضهم عن بعض ستة أو سبعة، أي تابعي عن تابعي عن تابعي ... إلخ، ولا نعلم مَن هو التابعي الذي لم يُذكر، فلربما كان ضعيفاً.

ونتفق أن جيل التابعين خير الأجيال بعد الصحابة إلا أنه وجد فيهم مَن لا يُحتج بروايته، مثل: "أبان بن أبي عَيَّاش" من التَّابِعين، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: تركُوا حَدِيثه[4]، وإن كانوا قِلَّة بالنسبة لمن بعدهم.

فربما التابعي الثقة الذي قال: قال رسول الله، ربما أخذ هذا الحديث عن أبان بن عياش -مثلا-، ولم يذكره في الإسناد، وأبان متروك، فيكون الحديث ضعيفا، فكيف نقول إن الحديث المرسل حُجة؟!

 لذلك قال هذا الفريق من العلماء، لا نقبل المرسل[5].

وتوسط فريق آخر -وهو قول الشافعي ومن تبعه- فقالوا: نقبل الحديث المرسل بشروط، وشروطه على قسمين:

القسم الأول: أن يتوفر شرط واحد -على الأقل- من هذه أربعة في الحديث المرسَل:

1- أن يعتضد بمرسل آخر عن غير رجال المرسل الأول.

2- أو بمسند عن غير رجال المرسل الأول.

3- أو يوافق قول صحابي.

4- أو يفتي أكثر العلماء بمقتضاه.

القسم الثاني: وأن تتوفر كل الشروط الآتية في الراوي المرسِل:

1-كون الشخص الذي أرسل الحديث من كبار التابعين.

2-وكون المرسل إذا شارك أهل الحفظ في أحاديثهم وافقهم، ولم يخالفهم (والندرة لا تؤثر).

3- أنه يلتزم الرواية عن الثقات.

أما مرسَل الصحابي: هو ما أخبر به الصحابي عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله، ولم يسمعه أو يشاهده؛ إما لصغر سنه، أو تأخر إسلامه، أو غيابه[6]، فالقول الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه صحيح محتجٌّ به؛ لأن رواية الصحابة عن التابعين نادرة[7].

فائدة: المعروف في الفقه وأصوله أن المراد بالمرسل ما انقطع إسناده فسقط من رواته واحد فأكثر، وذهب إليه الخطيب البغدادي والنووي وغيرهما[8]، من باب التوسع، فكل منقطع عندهم يسمونه مرسل.

أشهر المصنفات فيه:

1- المراسيل، لأبي داود.       2- المراسيل، لابن أبي حاتم.


[1]  قال النووي: " اتفق علماء الطوائف على أن قول التابعي الكبير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وفعله، يسمى مرسلا ". "التقريب ص 34"، وردَّه ابن حجر فقال: "ولم أر تقييده بالكبير صريحا عن أحد، لكن نقله ابن عبد البر عن قوم". "النكت 2/ 30" وانظر: "التمهيد 1/ 19"
قال ابن الصلاح: " والمشهور التسوية بين التابعين أجمعين في ذلك". "علوم الحديث ص 51"
[2] أخرجه أبو داود في كتابه "المراسيل" حديث رقم (23).
[3] الاحتجاج بالمراسيل، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه سفيان الثوري ومالك بن أنس وأصحابه والأوزاعي وأحمد بن حنبل -في المشهور- وعليه جمهور السلف، بل نقل ابن جرير الإجماع في ذلك، فقال: "وأجمع التابعون بأسرهم على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين". لكنهم اشترطوا ثقة المرسل وتحرزه في روايته عن غير الثقات، وشرط أبو حنيفة أن يكون مرسله من أهل القرون الثلاثة الفاضلة.
[4] المغني في الضعفاء للذهبي 1/7
[5] وهو قول جماهير المحدثين المتأخرين، حكاه عنهم مسلم وابن عبد البر والحاكم وروي عن ابن المسيب ومالك، وهو قول كثير من الفقهاء وأصحاب الأصول.
[6] ومن هذا النوع أحاديث لصغار الصحابة؛ كابن عباس، وابن الزبير، وغيرهما.
[7] تيسير مصطلح الحديث ص91
[8] "الكفاية ص 31 " "علوم الحديث ص 52 " "المجموع 1/ 100"

الجمعة، 19 يونيو 2020

آفاتٌ على الطريق .. الفُتُور (1)


آفاتٌ على الطريق .. الفُتُور (1)


يشتكي كثير من الصادقين ممن يعملون في حقل الدعوة تعليماً وتعلُّماً وإرشاداً ونصحاً وتوجيهاً، يشتكون من اعتراء شيء من الضَّعْف والفتور في ميدان الدعوة، وعدم الرغبة في مواصلة العمل أو ضمور تلك الرغبة.
وهذا أمرٌ طبيعي في النفس البشرية، ولكن غير الطبيعي ترك النفس وإهمالها حتى تنطفئ جذوة النشاط وتموت روح التضحية.
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "إن لكلِّ عملِ شِرَّةً، ولكلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فمن كانت فَتْرَتُهُ إلى سُنَّتِي، فقد اهتدى، ومن كانت فَتْرَتُهُ إلى غيرِ ذلك فقد هَلَكَ"[1].
وحقيقة الفتور: داءٌ يمكن أن يصيب بعض العاملين، يجر صاحبَه إلى حضيض الكسل أو التراخي أو التباطؤ، وربما يصل به إلى الانقطاع أو السكون التام بعد النشاط الدائب والحركة المستمرة.
ويمكن أن يدخل الفتور إلى النفس بسبب من الأسباب التالية[2]:

1-الغلو والتشدد في الدين:
وذلك بالانهماك في الطاعات وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى الضعف أو السأم والملل وبالتالي الانقطاع والترك، بل ربما أدى إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها، فينتقل العامل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التَّسَيُّب.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ.
قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا.
فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهِم، فَقالَ: "أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا ؟! أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي" متفق عليه.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُشَدِّدُوا على أنفسِكم فيُشَدَّدُ عليكم؛ فإن قومًا شَدَّدُوا على أنفسِهِم فشَدَّدَ اللهُ عليهم، فتِلْكَ بَقاياهم في الصوامِعِ والدِّيَارِ : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}"[3].

2-السرف ومجاوزة الحد في تعاطى المباحات:
فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى السِّمنة وضخامة البدن، وسيطرة الشهوات، وبالتالي التثاقل، والكسل والتراخي، إن لم يكن الانقطاع والقعود، ولعل ذلك هو السر في نهي الله ورسوله، وتحذيرهما من السرف، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنِه، بحسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا محالةَ، فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه، وثُلُثٌ لنفَسِه"[4].

3- مفارقة الجماعة وإيثار حياة العزلة والتفرد:
ذلك أن الطريق طويلة الأبعاد، متعددة المراحل، كثيرة العقبات في حاجة إلى تجديد، فإذا سارها المسلم مع الجماعة، وجد نفسه دوماً، متجدد النشاط، قوي الإرادة، صادق العزيمة، أما إذا شذّ عن الجماعة وفارقها، فإنه سيفقد من يجدد نشاطه، ويقوي إرادته، ويحرك همته، ويذكره بربه فيسأم ويمل، وبالتالي يتراخى ويتباطأ، إن لم ينقطع ويقعد.
ولعل هذا بعض السر في حرص الإسلام وتأكيده وتشديده على الجماعة، وتحذيره من مفرقتها، والشذوذ عنها إذ يقول الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكُم بالجماعَةِ، وإيَّاكُم والفُرقةَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ، وهوَ معَ الاثنينِ أبعَد، مَن أرادَ بَحْبُوحَةَ الجنَّةِ فلَيلزمِ الجماعةَ"[5].

4-قلة تذكر الموت والدار الآخرة:
فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى فتور الإرادة ، وضعف العزيمة ، وبطء النشاط والحركة ، بل قد يؤدى إلى الوقوف والانقطاع ، ولعلنا في ضوء هذا نفهم الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور بعد النهي والتحذير ، إذ يقول :"نَهَيتُكم عن زيارةِ القبورِ فزوروها ، فإِنَّ لكم فيها عبرَةٌ"[6].
كما نفهم الحكمة من حضه صلى الله عليه وسلم من تذكر الموت ، وانتهاء الأجل إذ يقول: "استَحيوا منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ إنَّا لنَستحيي والحمد لله، قالَ: ليسَ ذاكَ، ولَكِنَّ الاستحياءَ منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظ الرَّأسَ، وما وَعى، وتحفَظَ البَطنَ، وما حوَى، ولتَذكرِ الموتَ والبِلى، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فَعلَ ذلِكَ فقدَ استحيا يعني: منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ"[7].

5- التقصير في عمل اليوم والليلة:
مثل النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السَّهر بعد العشاء الذي لا مبرر له ، ومثل إهمال بعض النوافل الراتبة، وترك قيام الليل، أو صلاة الضحى، أو تلاوة القرآن، أو الذكر أو الدعاء، أو الاستغفار، أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد، أو عدم حضور الجماعة بدون عذر، فكل ذلك وأمثاله له عقوبات، وأدنى هذه العقوبات: الفتور بأن يكسل ويتثاقل أو ينقطع ويتوقف!
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم - في حديثه إلى شيء من هذا إذ يقول :
"يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ علَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هو نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فأصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وإلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ"[8].

يتبع إن شاء الله ..



[1] أخرجه ابن خزيمة (2105) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2152).
ومعنى: "شِرَّةً"، أي: نشاطًا وشِدَّةً وحِرْصًا ورغبةً في أوَّلِه، "ولكلِّ شِرَّةٍ فَترةٌ"، أي: ضعفٌ وخمولٌ وسكونٌ في آخِرِه، فالعابدُ يجتهد في العبادةِ أوَّلًا، ثمَّ تَسكُنُ شِرَّتُه وتَفتُرُ عَزيمتُه؛ لذا أمَرَ بهذا: "فمَن كان فَترتُه"، أي: فمَن كانت فَترةُ خُمولِه وضَعفِه، "إلى سُنَّتي فقد اهْتَدى"، وسُنَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هي الاقتصادُ والتَّوسُّطُ، مع المُداومةِ على الطاعة والإخلاصِ للهِ، وعدَمِ الرِّياءِ والسُّمعةِ، "ومَن كانت إلى غيرِ ذلك فقد هلَكَ"؛ لأنَّ مَن سلَكَ غيرَ هَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو مِن الهالكينَ. (الشرح من موقع الدرر السنية بتصرف يسير).
[2] أصل هذه المقالة من كتاب (لآفات على الطريق) للدكتور السيد نوح -رحمه الله-. (بتصرف يسير).
[3] أخرجه أبو داود، حسنه الشيخ الألباني في تخريج المشكاة (181).
[4] أخرجه الترمذي (2380)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6769)، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) باختلاف يسير، وصححه الألباني.
[5] أخرجه الترمذي (2165) وصححه الألباني.
[6] أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6789).
[7] أخرجه الترمذي (2458) واللفظ له، وأحمد (3671) وحسنه الألباني.
[8] أخرجه البخاري (1142) واللفظ له، ومسلم (776).