الاثنين، 1 يونيو 2020

شرح البيقونية (14) العالي والنازل


العالي والنازل


14 - وَكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُهُ عَلاَ ... وَضِدُهُ ذاك الذي قد نَزَلا

اعلم أن الإسناد خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وليست لغيرها من الأمم السابقة، وهو سنة بالغة مؤكدة، فعلى المسلم أن يعتمد عليه في نقل الأحاديث والأخبار.

قال ابن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" وقال الثوري: "الإسناد سلاح المؤمن"، كما أن طلب العلو فيه سُنة أيضا، قال أحمد بن حنبل: "طلب الإسناد العالي سُنَّةٌ عمَّن سلف"؛ لأن التابعين من أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة، فيتعلمون من عمر، ويسمعون منه، ولذلك استحبت الرحلة في طلب الحديث، ولقد رحل غير واحد من الصحابة في طلب علو الإسناد، منهم أبو أيوب، وجابر رضي الله عنهما.

والمقصود بالإسناد العالي: هو الإسناد الذي قَلَّ عدد رجاله بالنسبة إلى سند آخر يَرِدُ به ذلك الحديث بعدد أكثر.

والإسناد النازل: هو الإسناد الذي كثر عدد رجاله بالنسبة إلى سند آخر يرد به ذلك الحديث بعدد أقل.

مثاله: حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «قُومُوا فَلِأُصَلِّ لَكُمْ» ... الحديث".

هذا الحديث رواه البخاري وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة رُواة، قال البخاري: حَدَّثَنَا (1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: (2) أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ (3) إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، (4) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ[1].

وكذلك رواه الترمذي وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة رواة، قال الترمذي: حَدَّثَنَا (1) إِسْحَاقُ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا (2) مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنَا (3) مَالِكٌ، عَنْ (4) إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، (5) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

فإسناد الترمذي في هذا الحديث -كما ترى- أنزل من إسناد البخاري، وإسناد البخاري أعلى من إسناد الترمذي.

وما زال المحدثون -بشكل عام- يفضلون الإسناد العالي، ويذمون الإسناد النازل؛  فهذا يحيى بن معين يقول: «الحديث بنزول كَالْقُرْحَةِ في الوجه»، ويقول علي بن المديني: «النزول شؤم»[2]، أما إن كان في الإسناد العالي نقصٌ سَلِمَ من الإسناد النازل، فالنازل حينئذ أرجح.

قال ابن حجر: "إِنْ كانَ في النُّزولِ مَزِيَّةٌ ليستْ في العلوِّ؛ كأَنْ يكونَ رجالُه أَوثقَ منهُ، أَو أَحفَظَ، أَو أَفقهَ، أَو الاتِّصالُ فيهِ أَظهرَ؛ فلا تردُّدَ في أَنَّ النُّزولَ حينئذٍ أَولى"[3].

وللعلو أقسام :

يُقَسَّمُ العلوُّ إلى خمسة أقسام، واحد منها علوٌّ مطلق، والباقي علوٌّ نسبي:

العلو المطلق: هو القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح نظيف، (كما في المثال السابق) وهو أجلُّ أقسام العلوِّ.

أما العلو النسبي: فهو القرب من أحد أئمة الحديث، -وإن كثر بعده العدد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- مثل القرب من الأعمش، أو ابن جريج، أو مالك، أو غيرهم، مع الصحة ونظافة الإسناد أيضا.

وكذلك القرب بالنسبة إلى رِوَايَةِ أَحَدِ الكُتُب السِّتة، أو غيرها من الكتب المعتمدة:

وهو ما كَثُرَ اعتناء المتأخرين به من: الموافقة، والأبدال، والمساواة، والمصافحة.

الموافقة: وهي الوصول إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقه؛ أي: الطريق التي تصل إلى ذلك المصنف المعين.

مثاله: روى البخاري عن قتيبة عن مالك حديثا...

فلو رويناه من طريق البخاري؛ كان بيننا وبين قتيبة ثمانية، ولو روينا ذلك الحديث بعينه من طريق أبي العباس السراج عن قتيبة مثلا؛ لكان بيننا وبين قتيبة سبعة.

فقد حصلت لنا الموافقة مع البخاري في شيخه بعينه مع علو الإسناد على الإسناد إليه.

البَدَل: وهو الوصول إلى شيخ شيخه كذلك، كأن يقع لنا ذلك الإسناد بعينه من طريق أخرى إلى القعنبي عن مالك، فيكون القعنبي بدلا فيه من قتيبة.

المساواة: استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخر الإسناد مع إسناد أحد المصنفين.

مثاله: كأن يروي النسائي مثلا حديثا يقع بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أحد عشر نفسا، فيقع لنا ذلك الحديث بعينه بإسناد آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقع بيننا فيه وبين النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا، فنساوي النسائي من حيث العدد، مع قطع النظر عن ملاحظة ذلك الإسناد الخاص.

المصافحة: الاستواء مع تلميذ ذلك النسائي مثلاً.

وسُميت مصافحة لأن العادة جرت في الغالب بالمصافحة بين من تلاقيا، ونحن في هذه الصورة كأنا لقينا النسائي، فكأنا صافحناه.


وهناك أقسام أخرى ذكرها العلماء في العلو:

العلو بتقدم وفاة الراوي: ومثاله ما قاله النووي: "فما أرويه عن ثلاثة عن البيهقي، عن الحاكم، أعلى من أن أرويه عن ثلاثة، عن أبي بكر بن خلف، عن الحاكم؛ لتقدم وفاة البيهقي، عن ابن خلف".

العلو بتقديم السماع: أي بتقدم السماع من الشيخ. فمن سمع منه متقدما كان أعلى ممن سمع منه بعده.

مثاله: أن يسمع شخصان من شيخ، وسماع أحدهما منذ ستين سنة مثلا، والآخر منذ أربعين سنة، وتساوى العدد إليهما، فالأول أعلى من الثاني، ويتأكد ذلك في حق من اختلط شيخه أو خرف.

وللنزول أقسام كذلك، فأقسام النزول خمسة، وتعرف من ضدها، فكل قسم من أقسام العلو ضد قسم من أقسام النزول.



المصنفات في العلو والنزول[4]:

لا توجد مصنفات خاصة بالأسانيد العالية أو النازلة بشكل عام، لكن أفرد العلماء بالتصنيف أجزاء أطلقوا عليها اسم "الثلاثيات"، ويعنون بها الأحاديث التي فيها بين المصنف وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشخاص فقط، وفي ذلك إشارة إلى اهتمام العلماء بالأسانيد العوالي، فمن تلك الثلاثيات:

أ- ثلاثيات البخاري، لابن حجر.

ب- ثلاثيات أحمد بن حنبل، للسفاريني.



[1] أخرجه البخاري (380)
[2] الأثران في الجامع للخطيب 1/123-124
[3] نزهة النظر ص116.
[4] تيسير مصطلح الحديث ص228

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق