الجمعة، 19 يونيو 2020

آفاتٌ على الطريق .. الفُتُور (1)


آفاتٌ على الطريق .. الفُتُور (1)


يشتكي كثير من الصادقين ممن يعملون في حقل الدعوة تعليماً وتعلُّماً وإرشاداً ونصحاً وتوجيهاً، يشتكون من اعتراء شيء من الضَّعْف والفتور في ميدان الدعوة، وعدم الرغبة في مواصلة العمل أو ضمور تلك الرغبة.
وهذا أمرٌ طبيعي في النفس البشرية، ولكن غير الطبيعي ترك النفس وإهمالها حتى تنطفئ جذوة النشاط وتموت روح التضحية.
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "إن لكلِّ عملِ شِرَّةً، ولكلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فمن كانت فَتْرَتُهُ إلى سُنَّتِي، فقد اهتدى، ومن كانت فَتْرَتُهُ إلى غيرِ ذلك فقد هَلَكَ"[1].
وحقيقة الفتور: داءٌ يمكن أن يصيب بعض العاملين، يجر صاحبَه إلى حضيض الكسل أو التراخي أو التباطؤ، وربما يصل به إلى الانقطاع أو السكون التام بعد النشاط الدائب والحركة المستمرة.
ويمكن أن يدخل الفتور إلى النفس بسبب من الأسباب التالية[2]:

1-الغلو والتشدد في الدين:
وذلك بالانهماك في الطاعات وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى الضعف أو السأم والملل وبالتالي الانقطاع والترك، بل ربما أدى إلى سلوك طريق أخرى عكس الطريق التي كان عليها، فينتقل العامل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التَّسَيُّب.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ.
قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا.
فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهِم، فَقالَ: "أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا ؟! أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي" متفق عليه.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُشَدِّدُوا على أنفسِكم فيُشَدَّدُ عليكم؛ فإن قومًا شَدَّدُوا على أنفسِهِم فشَدَّدَ اللهُ عليهم، فتِلْكَ بَقاياهم في الصوامِعِ والدِّيَارِ : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}"[3].

2-السرف ومجاوزة الحد في تعاطى المباحات:
فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى السِّمنة وضخامة البدن، وسيطرة الشهوات، وبالتالي التثاقل، والكسل والتراخي، إن لم يكن الانقطاع والقعود، ولعل ذلك هو السر في نهي الله ورسوله، وتحذيرهما من السرف، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنِه، بحسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا محالةَ، فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه، وثُلُثٌ لنفَسِه"[4].

3- مفارقة الجماعة وإيثار حياة العزلة والتفرد:
ذلك أن الطريق طويلة الأبعاد، متعددة المراحل، كثيرة العقبات في حاجة إلى تجديد، فإذا سارها المسلم مع الجماعة، وجد نفسه دوماً، متجدد النشاط، قوي الإرادة، صادق العزيمة، أما إذا شذّ عن الجماعة وفارقها، فإنه سيفقد من يجدد نشاطه، ويقوي إرادته، ويحرك همته، ويذكره بربه فيسأم ويمل، وبالتالي يتراخى ويتباطأ، إن لم ينقطع ويقعد.
ولعل هذا بعض السر في حرص الإسلام وتأكيده وتشديده على الجماعة، وتحذيره من مفرقتها، والشذوذ عنها إذ يقول الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكُم بالجماعَةِ، وإيَّاكُم والفُرقةَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ، وهوَ معَ الاثنينِ أبعَد، مَن أرادَ بَحْبُوحَةَ الجنَّةِ فلَيلزمِ الجماعةَ"[5].

4-قلة تذكر الموت والدار الآخرة:
فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى فتور الإرادة ، وضعف العزيمة ، وبطء النشاط والحركة ، بل قد يؤدى إلى الوقوف والانقطاع ، ولعلنا في ضوء هذا نفهم الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور بعد النهي والتحذير ، إذ يقول :"نَهَيتُكم عن زيارةِ القبورِ فزوروها ، فإِنَّ لكم فيها عبرَةٌ"[6].
كما نفهم الحكمة من حضه صلى الله عليه وسلم من تذكر الموت ، وانتهاء الأجل إذ يقول: "استَحيوا منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ إنَّا لنَستحيي والحمد لله، قالَ: ليسَ ذاكَ، ولَكِنَّ الاستحياءَ منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظ الرَّأسَ، وما وَعى، وتحفَظَ البَطنَ، وما حوَى، ولتَذكرِ الموتَ والبِلى، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فَعلَ ذلِكَ فقدَ استحيا يعني: منَ اللَّهِ حقَّ الحياءِ"[7].

5- التقصير في عمل اليوم والليلة:
مثل النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السَّهر بعد العشاء الذي لا مبرر له ، ومثل إهمال بعض النوافل الراتبة، وترك قيام الليل، أو صلاة الضحى، أو تلاوة القرآن، أو الذكر أو الدعاء، أو الاستغفار، أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد، أو عدم حضور الجماعة بدون عذر، فكل ذلك وأمثاله له عقوبات، وأدنى هذه العقوبات: الفتور بأن يكسل ويتثاقل أو ينقطع ويتوقف!
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم - في حديثه إلى شيء من هذا إذ يقول :
"يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ علَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هو نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فأصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وإلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ"[8].

يتبع إن شاء الله ..



[1] أخرجه ابن خزيمة (2105) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2152).
ومعنى: "شِرَّةً"، أي: نشاطًا وشِدَّةً وحِرْصًا ورغبةً في أوَّلِه، "ولكلِّ شِرَّةٍ فَترةٌ"، أي: ضعفٌ وخمولٌ وسكونٌ في آخِرِه، فالعابدُ يجتهد في العبادةِ أوَّلًا، ثمَّ تَسكُنُ شِرَّتُه وتَفتُرُ عَزيمتُه؛ لذا أمَرَ بهذا: "فمَن كان فَترتُه"، أي: فمَن كانت فَترةُ خُمولِه وضَعفِه، "إلى سُنَّتي فقد اهْتَدى"، وسُنَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هي الاقتصادُ والتَّوسُّطُ، مع المُداومةِ على الطاعة والإخلاصِ للهِ، وعدَمِ الرِّياءِ والسُّمعةِ، "ومَن كانت إلى غيرِ ذلك فقد هلَكَ"؛ لأنَّ مَن سلَكَ غيرَ هَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو مِن الهالكينَ. (الشرح من موقع الدرر السنية بتصرف يسير).
[2] أصل هذه المقالة من كتاب (لآفات على الطريق) للدكتور السيد نوح -رحمه الله-. (بتصرف يسير).
[3] أخرجه أبو داود، حسنه الشيخ الألباني في تخريج المشكاة (181).
[4] أخرجه الترمذي (2380)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6769)، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) باختلاف يسير، وصححه الألباني.
[5] أخرجه الترمذي (2165) وصححه الألباني.
[6] أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6789).
[7] أخرجه الترمذي (2458) واللفظ له، وأحمد (3671) وحسنه الألباني.
[8] أخرجه البخاري (1142) واللفظ له، ومسلم (776).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق