السبت، 13 يونيو 2020

أسباب انتشار الأحاديث غير الصحيحة بين الناس


أسباب انتشار الأحاديث غير الصحيحة بين الناس


 
أقول في نفسي: لو عاش فينا جهابذة المحدثين وكبار المصنفين، لسطّروا مؤلفاتٍ جديدة ومجلداتٍ عديدة؛ فيما اشتهر على ألسنة الناس اليوم مما لم تصح نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ولا يفتأ طالب العلم في بيان ضعف الأحاديث المتداولة بين الناس في هذا الزمان، ولا يزال الناس يتناقلون تلك الأحاديث فيما بينهم مُصِرِّين مثابرين!، ولسان حاله يقول:

وإِنِّي وإِيَّاكُمْ كَمَنْ نَبَّهَ القَطا            ولَوْ لَمْ تُنَبَّهْ باتَتِ الطَّيْرُ لا تَسْرِي

أَعُودُ على ذِي الجَهْلِ مِنْهُمْ تَكَرُّماً             بحِلْمِي، ولَوْ عاقَبْتُ ما جُرْتُ في الأَمْرِ

وقُدْوَتُهُ في مجاهدتِهم محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ، القائل: «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي»[1].

ومهما يكن من شيء، فلا بد من وضع اليد على الجرح، ومعالجته حتى يَرْقأ الدم، ولا بد أيضاً قبل ذلك من معرفة أسباب رواج تلك الأحاديث حتى يسهل العلاج.

ولا أريد ترداد ما هو موجود في كتب "مصطلح الحديث" حول موضوع "أسباب وضع الحديث"، لأن تلك الأسباب لا تنطبق على غالب الناس اليوم؛ فالوضاعون هناك يختلفون عن المتداولين لها هنا!

فيذكر علماء الحديث من أسباب وضع الحديث:

التقرب إلى الله تعالى؛ وذلك بوضع أحاديث ترغب الناس في الخيرات، وأحاديث تخوفهم من فعل المنكرات، أو الانتصار للمذهب العقدي أو الفقهي أو السياسي، أو الطعن في الإسلام، أو التَّزَلُّف إلى الحُكام، أو التكسب وطلب الرزق، أو قصد الشهرة ... إلخ.

فكما ترى أن أصناف الوضَّاعين هؤلاء يجمعهم عامل مشترك وهو أنهم: يعلمون أن تلك الأحاديث التي ينشرونها لا تصح، ولكن لهدفٍ ما في نواياهم نشروه.

أما غالب الناس في زماننا فلا تنطبق عليهم تلك الحلات، إنما يتداولون الأحاديث لأسباب أخرى بحسن نية، الجامع لها الجهل، فمنها الآتي:

1-الجهل، فكثير من الناس لا يعرف أن الحديث منه المقبول ومنه المردود، فينشُر كل ما يأتيه، مصدقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وهذا النوع من الناس ليس له -فيما يظهر- الحد الأدنى من العلم الشرعي.

2-أحاديث نشأ عليها بعض الناس وسمعها منذ صغره وشَبَّ عليها وشاب، يظنها صحيحه، ولم يخطر بباله أنها لا تصح، مثل:

(العمل عبادة) (اطلبوا العلم ولو بالصين)[2]، و(حب الوطن من الإيمان)[3]، وغيرها كثير.

3-أخذ تلك الأحاديث من مصادر غير معتمدة، ككتاب "عقوبة أهل الكبائر" لمؤلفه أبي الليث السمرقندي[4]، فهذا المؤلف ومن كان على طريقته ليس لهم عناية في علم الحديث، وقد ملأوا كتبهم بطوام لا تخفى على المبتدئين في علم الحديث، قال الإمام الذهبي عن السمرقندي: "تَرُوج عليه الأحاديث الموضوعة"[5]، أي ليس من أهل العلم بالحديث.

وسُئل الشيخ ابن عثيمين: عن كتاب "عقوبة أهل الكبائر" لمؤلفه أبي الليث السمرقندي؟

فأجاب بقوله: "هذا الكتاب فيه الكثير من الأشياء التي لا تصح؛ ولهذا لا أنصح إخواني بقراءته إلا رجل كان عنده علم شرعي يُمَيِّز الصحيحَ من الضعيف... "[6].

ومثله كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، فإنه لم يكن من أهل الحديث، لذا حشا كتابه بما لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولإمامة مؤلفه في الفقه والأصول اشتهر الكتاب بين الناس، فاضطر كثير من علماء أهل الحديث إلى تخريج أحاديث الكتاب وبيان ما صح وما لم يصح، منهم الإمام العراقي في كتابه: "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" وهو مطبوع بهامش إحياء علوم الدين، فكانت الأحاديث التي لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعشرات، بل بالمئات!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة ، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًّا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين ، وقد أنكر أئمة الدين على أبى حامد هذا في كتبه، وقالوا: مَرَّضَهُ (الشفاء)- يعنى شفاء ابن سينا في الفلسفة- وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترَّهاتهم"[7].

4- عدم التمييز بين الكلمات والمعبارات المشتركة باللفظ المختلفة بالمعنى، ومن طرائف هذا: أن بعض الناس كان يقرأ كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي على المصلين!، يظن أن المعنى: أحاديث في موضوعات متنوعة، وما يدري أن ابن الجوزي يقصد "الأحاديث المكذوبة"!!

5-حسن الظن ببعض المبتدعة من الصوفية وغيرهم؛ إذ أن بعض هؤلاء قد يكون إماماً في مسجد أو مدرساً في مدرسة أو معهد، ويُحدِّث الناسَ بأحاديث باطلة توافق مذهبه، والناس لا يدرون أصلاً ما معنى العقيدة الصحيحة، ولا يميزون بين الصوفي -مثلا- والسُّني!

6-أن بعض تلك الأحاديث -غير الصحيحة- سهلة الحفظ؛ قليلة الكلمات، تعلق في الذاكرة، وتجري على الألسن، مثل:

(كما تدين تدان)[8]، (لا سمر بعد العشاء)[9]، (الأقربون أولى بالمعروف)[10] وغيرها.

مع أن بعض تلك العبارات صحيحة المعنى، أي أنه يشهد لصحة معناها أحاديث أخرى بألفاظ أخرى، لكن كلامنا في تلك الألفاظ التي ننسبها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتلفظ بها قط.

7-عدم تمييز كثير من الناس بين الموقوف والمرفوع، بمعنى: أن بعض الناس ربما يسمع إمام المسجد على المنبر يقول كلاماً لأحد الصحابة، فيفهم هذا السامع أن الكلامَ كلامُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، لجريان العادة أن الناس يذكرون راوي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل قول الحديث النبوي، مثال ذلك:

لو قال إمام المسجد: قال عمر بن الخطاب: (اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجِر، وعَجْزَ الثقة)، قد يظن بعض الحاضرين أن هذا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والراوي له عمر بن الخطاب!



ثم إن مما ساهم بشكل كبير في نشر الأحاديث الباطلة في هذا الزمان، سرعة انتشار المعلومات عن طريق منصات التواصل الاجتماعي.

لذلك يجب على كل مسلم أن يجعل نصب عينيه أموراً مهمة قبل نشر الأحاديث:

1-أن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه سلم- ليس ككذب على غيره؛ لأن الكذب عليه يعني الزيادة والنقصان في الشرع، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أخرجه مسلم.

بل حتى لو لم تتقول أنت على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إنما شاركت في نقل حديث مكذوب فإن الوعيد يتناولُك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح.

2-قبل نشر الأحاديث التي تصلك ينبغي عليه التأكد من صحتها قبل نشرها، من خلال موقع "الدرر السنية" https://www.dorar.net/hadith

أو غيره من المواقع المعتمدة، ولو قلَّدَ غيرُ المتخصص إماما كالإمام الألباني في أحكامه فلا بأس.

ويمكن سؤال طلبة العلم الموثوقين عن صحة الحديث.



هذا والله أعلم،،




[1] رواه مسلم في «الفضائل» (٢٢٨٥)

[2] رواه البيهقي والخطيب وابن عبد البر والديلمي وغيرهم عن أنس، وهو ضعيف، بل قال ابن حبان: باطل، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. (كشف الخفاء 1/156).

[3] قال الصغاني: موضوع. (كشف الخفاء 1/398).

[4] وله أيضاً "تنبيه الغافلين".

[5] "سير أعلام النبلاء" (16 / 322).

[6] "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (26 / 352).

[7] وقد اختصره غير واحد من أهل العلم حرصاً على أن يستفاد مما فيه من خير بحذف ما سواه، ومنهم ابن الجوزي الذي حذف الأحاديث الموضوعة والواهية، وعمد إلى ما لا طائل من ورائه مما احتوى على بعض المخالفات، فحذفه، وسمى كتابه (منهاج القاصدين) وقال في مقدمته: (فاعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء وأقلها الأحاديث الموضوعة، والموقوفة قد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها....) ثم يقول: (وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه، وندب إلى العمل به ما لا حاصل له، من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد إلى غير ذلك....). ثم قال: (وسأكتب لك كتابا يخلو عن مفاسده ولا يخل بفوائده). انتهى. ثم اختصر المقدسي (منهاج القاصدين) هذا في كتابه (مختصر منهاج القاصدين)، وهناك مختصرات أخرى.

[8] رواه أبو نعيم والديلمي وغيرهما، بأسانيد لا تصح (كشف الخفاء 2/149)

[9] لا أصل لهذا اللفظ، ومعناه صحيح بألفاظ أخرى، كحديث «لا سمر إلا لمصل أو مسافر» أخرجه أحمد والترمذي عن ابن مسعود، وصحصحه الألباني صحيح الجامع رقم (7499).


[10] قال السخاوي: ما علمته بهذا اللفظ، ولكن قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي طلحة: أرى أن تجعلها في الأقربين، رواه البخاري. (المقاصد الحسنة ص 134)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق