الثلاثاء، 2 يونيو 2020

لا أستطيع التَّـنَـفُس!


لا أستطيع التَّـنَـفُس!



لعل القارئ الكريم سمع أو قرأ في الأيام القليلة الماضية في مواقع التواصل أو في شاشات التلفاز أو في الصحف: "لا أستطيع التنفس" أو "I can't breathe" تلك العبارة أطلقها أمريكي من ذوي البشرة السمراء مستجدياً بالشرطي "الأبيض" الواضع ركبته على عنقه لمدة سبع دقائق، حتى فارق الأسمر "جورج فلويد" الحياة!
لم تكن تلك الحادثة مجرد عمل فردي من شرطي أحمق، ولم تكن هي الأولى من نوعها، هذه الحادثة مشهد يتكرر يذكرنا بتاريخ دموي من العنصرية الممقوتة في الشعب الأمريكي منذ عشرات السنين.
تلك العنصرية المحمية بقوةِ قانون "الفصل الاجتماعي" لسنوات طويلة بين البيض والسود، حتى ناضل "مارتن لوثر كنج" واستطاع أن يلغيها قانونا، ويفشل عُرفاً، ويُقتل بسببها.
 (دورات مياه خاصة بالبيض دون غيرهم)
يُعرِّف أهل الاختصاص الفصل الاجتماعي بأنه: عزل بين جماعتين من الناس أو أكثر بقوة القانون أو العُرف السائد، بسبب الاختلاف في الجنس، أو الدين، أو الثّروة، أو الثقافة أو مثل ذلك.
ويكون الفصل الاجتماعي عادة نتيجة لفترة طويلة من صراع الجماعات -كالبيض والسود-، وفي حال امتلاك إحدى الجماعتين المتصارعتين قوة ونفوذاً أكثر مما تمتلك الأخرى، فإنها تستخدم القُوة، والقانون، أو العُرف لتعزِل الجماعة الخاضعة -في بعض الأحيان-، وبمرور الوقت يصل الفصل الاجتماعي إلى حد اعتباره حقاً شرعياً وأمراً صحيحاً، وخاصة من قبل الجماعة المسيطرة، ويعتبر انتهاك أعراف الفصل الاجتماعي الـمُسَلَّم بها خطأ يستحق من يُقدم عليه أشد العقوبات.
وتعتقد الجماعة المسيطرة عادةً أن أعضاءها مزودون بذكاء فطري، ومواهب ومعايير أخلاقية رفيعة وأعلَى شَأنًا، وتستخدم الجماعة المسيطرة هذه المعتقدات الزائفة أو المبالغ فيها لتسويغ سوء معاملتها للجماعة الأقل شأناً.
ويمكن أن يُمارَس الفصل في كل مجالات الحياة تقريباً، ولكنه شائع بصفة خاصة في: الإسكان، والتّعليم، والتّوظّيف، وفي استخدامات أماكن الأكل، والنّوم، والنّقل، وغير ذلك من المرافق العامة، حين يكون للبيض -مثلا- أماكن أكثر تميزاً، ومنفصلة عن السود!
(التمييز العنصري وصل إلى برادات الماء)

الفصل الاجتماعي في الولايات المتحدة:
بدأ الفصل الاجتماعي في الولايات المتحدة في شكله الحديث في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي،  حيث قاسى السُّود المحرَّرون تمييزًا عنصريًا واسع النطاق، وخاصة في الجنوب.
حيث ظهرت قوانين "جيم كرو" في بادئ الأمر في عدد من الولايات الشمالية في أوائل القرن التاسع عشر، وتبنتها كثير من الولايات الجنوبية في أواخره، وقضت هذه القوانين بأن يستخدم البيض والسُّود مرافق عامة منفصلة، ففرضت ولاية أوكلاهوما على البيض والسُّود استخدام أكشاك هاتف منفصلة، بينما استخدمت كثير من المحاكِم أناجيل منفصلة للحلف عند الشّهادة، كما تَبَنَّت بعض الولايات الجنوبية قوانين "جيم كرو" التي جَرّدت السُّود من حُقوقهم الانتخابيّة، حَرّمت كثير من الولايات الزّواج بين السُّود والبيض.
وتعتبر الولايات المتحدة واحدة من الدول القليلة التي أخذ "الفصل الاجتماعي" فيها دعماً قانونياً، لكن في عام 1967م، قضت المحكمة العُليا للولايات المتحدة بعدم دستورية هذه القوانين.
(مارتن لوثر كنج يلقي خطابه المشهور "لَدَيَ حلم")

وبقيت حزازات النفوس السالفة في أعماق الضمائر الملتهبة، تجيش مع مضي السنين عند كل نعرة عنصرية.

الفصل الاجتماعي في نظر الإسلام:
لا يقر الإسلام "الفصل الاجتماعي" ولا يعترف به منذ بزوغ فجره، فالمساواة بين بني البشر مبدأ أساسي في الإسلام، وهي مساواة كاملة محكمة في الحقوق والواجبات والكرامة وأمام القضاء بين المرأة والرجل، بين الصغير والكبير، والمحكوم والحاكم، بين الأغنياء والفقراء، بين مختلف الطبقات والجماعات.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناسُ ! إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: فليُبَلِّغُ الشاهدُ الغائبَ"[1].
فأحكام الشريعة الإسلامية تطبق على الجميع، لا فرق بين شريف ووضيع، وأمير وحقير، وأسود وأبيض.
فينبغي للمسلم ألا تمر عليه تلك الأحداث من غير أن يتفكر فيها ويتأملها ويستخرج الفوائد والعبر منها، يقول الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}.
ومن تلك الفوائد والعبر:
1-أن الإسلام قد سبق الأنظمة الوضعية في عدم التمييز العنصري، وجعل التمييز على أساس التقوى.
2-أن كثيراً من تلك الشعارات الرنانة التي ينعق بها أعداء الإسلام هي مجرد زيف وكذب، لا تثبت عند الأزمات.
3-أن نزداد يقيناً بصلاحية الإسلام وأحكامه لكل زمان ومكان، وأن ما سواه باطل ضلال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
4-أن أشكال التمييز العنصري لا تقف عن اللون، بل قد يكون هناك تمييزا عنصرياً على أساس قَبَلي أو وطني أو حضري أو بدوي ... إلخ، والإسلام يحارب كل ذلك.


[1] أخرجه بهذا اللفظ: أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/100)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5137) باختلاف يسير، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2700).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق