السبت، 30 مايو 2020

فتح القسطنطينية


فتح القسطنطينية

لم يشهد التاريخ دعوة صادقة صافية لا لبْسَ فيها ولا أسرار مثل الدعوة الإسلامية، لقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ويفتح به القلوبَ والعقولَ قبل الديار والإمبراطوريات.
يدلنا على حقيقة ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمراء الجيوش أن لا يبدؤوا العدو بالقتال حتى يعرضوا على العدو الإسلامَ، فإن أَبَوا فالجزية، فإن أَبَوا فإنه لا مفرَّ من قتال صناديد الكفر الذين حالوا بين الدِّين الحق وبين البشرية، الذين يسترون عقول الناس بحجاب الظلمات خشيةَ نور الإيمان أن يحرق عروشهم!
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بجهاده يطلب الملك ولا الأموال، كيف يُظن به ذلك وقد توفي صلوات ربي وسلامه عليه ودرعه مرهون عند يهودي في ثلاثين صاعا أخذه طعاما لأهله!
ولم يكن يجمع الأموال لأولاده ونسائه بعد مماته، وهو القائل: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة).
فلم يبق لكل منصف إلا أن يعلم أنها دعوة سماوية قادها خير البرية، واقتفى أثره مَن عَمِل بسُنته وهدى اللهُ بهمُ البَشرية.
ولـمَّـا كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ممتدةً حتى بعد مماته، كان عليه الصلاة والسلام يشحذ هِمَمَ أمته بشيء من أمور الغيب مما أطلعه الله عليه، فمما قال لهم: (لَتُفتَحَنَّ القُسْطَنْطينيَّةُ؛ فنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ونِعْمُ الجيشُ ذلكَ الجيشُ)[1].
فتطلع المسلمون منذ عصورهم الأولى إلى القسطنطينية، وحاولوا انتزاعها من البيزنطيين مرتين في عهد الدولة الأموية في عهد معاوية -رضي الله عنه-، وفي عهد الوليد بن عبد الملك، ومرتين في عهد الدولة العباسية على عهدي المهدي والرشيد، ولم يكتب لهم فتحها، كذلك وحاول بعض السلاطين العثمانيين تحقيق هذا الحلم، ولم يتمكنوا من فتحها.
حتى جاء السلطان محمد الثاني (محمد الفاتح[2]) (833 - 886هـ / 1429 - 1481م) أشهر سلاطين الدولة العثمانية، فتقلَّد مقاليد الحكم ومعه وصيةٌ من أبيه السلطان مراد الثاني: بفتح القسطنطينية!
استعدّ السلطان محمد الثاني سياسيًا وعسكريًا لفتح القسطنطينية وكان من إجراءاته السياسية التي اتخذها تحديد المعاهدات واتفاقيات الهدنة مع جميع جيرانه الذين تربطهم به علاقات، والجنوبيين المقيمين داخل القسطنطينية، وهدفه من هذا عزل الدولة البيزنطية سياسيًا وعسكريًا عن جيرانها.
ومن الناحية العسكرية أكمل إقامة المنشآت التي بدأها السلطان بايزيد الأول على مقربة من القسطنطينية، وكان هذا بايزيد قد شيّد قلعة على الجانب الآسيوي من البوسفور تسمَّى "أناضولي حصار" أو حصن آسيا، فشيّد محمد الثاني، على الجانب الأوروبي للبوسفور قلعة تسمى "روم إيلي حصار" أي حصن أوروبا وبذلك سيطر العثمانيون على ضفتي البوسفور.
احتج الإمبراطور البيزنطي على هذه الإجراءات، ورفض السلطان هذا الاحتجاج، وما كان من الإمبراطور إلا أن أغلق بوابات عاصمته واعتقل الرعايا العثمانيين وردّ عليه السلطان بإعلان الحرب، وحشد قوَّات قوامها ربع مليون جندي، فحاصر بهم القسطنطينية ثلاثة وخمسين يومًا.
في 12 ربيع الآخر 857هـ \ 21 نيسان (أبريل) 1453م أخذ السُلطان يُفكِّرُ بالدخول إلى مضيق القرن الذهبي بأي طريقة لإتمام الحصار على المدينة، إذ أنَّ أي تقدّمٍ نوعيّ لن يحصل إلَّا بتشديد الخناق على المدينة من كافَّة الجهات، لكن العبور إلى داخل القرن الذهبي كان مُستحيلًا مع وجود السلسلة الحديديَّة الغليظة الطويلة، التي أُغلقت مدخل القرن الذهبي بها، فخطر ببال السُلطان فكرة غريبة لم تُطبَّق من قبل، وتقضي بنقل المراكب برًّا عبر ميناء "بشكطاش" العُثماني ثُمَّ خلف هِضاب "غَلَطة" وصولًا إلى القرن الذهبي، وبهذا يُمكن الالتفاف حول السلسلة. 
(السُلطان مُحمَّد الفاتح يُشرف على جرّ السُفن من البوسفور وسحبها على البر وصولًا إلى مضيق القرن الذهبي)
 
وتمَّ هذا الأمر المُستغرب بتمهيد طريق البر الذي يبلغ طوله فرسخ واحد، أي ثلاثة أميال، وُضعت فوقه ألواحٌ من الخشب صُبَّت عليها كميَّةٌ هائلةٌ من الزيوت والشحوم لتسهيل انزلاق السُفن عليها.
وبهذا أمكن نقل حوالي سبعين مركبًا (وفي بعض المصادر 67 مركبًا) في ليلةٍ واحدة، وأضحت العاصمة البيزنطيَّة، بعد ذلك، مُحاصرة ومُهددة من الجهات كافَّة.
وفي صباح 13 ربيع الآخر 857هـ \ 22 نيسان (أبريل) 1453م استيقظ أهلُ القسطنطينيَّة صبيحة هذا اليوم على تكبيرات المُسلمين وهتافاتهم المُتصاعدة، فدُهشوا دهشةً عظيمةً لمَّا شاهدوا السُفن العُثمانيَّة ترسو داخل القرن الذهبي.
(السُفن العُثمانيَّة ترسو في مضيق القرن الذهبي وتُطبق الحصار على المدينة)
 
وكانت الصدمة عنيفة للغاية، إذ أنَّ هذه العمليَّة أحدثت انهيارًا في معنويَّات البيزنطيين، لأنَّ الأسوار من هذه الناحية كانت ضعيفة ولم يكن يُعتمد عليها، لاستبعاد وصول أُسطول مُعادٍ إلى داخل الميناء، أمام هذا الواقع المُستجد، وجد الإمبراطور نفسه مُضطرًّا أن يسحب قوَّات كبيرة من المُدافعين عن الأسوار الأُخرى لكي يتولّوا الدفاع عن الأسوار المُطلّة على القرن الذهبي، مما أوقع خللًا في الدفاع عن الأسوار الأُخرى.
ويُمكن مُلاحظة الصدمة في ما كتبه المؤرِّخ والدبلوماسي البيزنطي الأمير دوكاس الذي التقى بالسُلطان مُحمَّد شخصيًّا:
«ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، مُحمَّد الفاتح يُحوِّلُ الأرض إلى بحارٍ وتعبرُ سُفنهُ فوق قمم الجبال بدلًا من الأمواج. لقد فاق مُحمَّد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر»
وبدأ الهجوم العثماني على المدينة في 20 جمادى الأولى عام 857هـ الموافق 29 مايو 1453م، وتمكنوا بعد مقاومة عنيفة من اقتحام أسوارها، وقتلوا الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر[3].
(العُثمانيّون يقتحمون المدينة)
ودخل السلطان المدينة في 20 جمادى الأولى عام 857هـ الموافق 29 مايو 1453م، وحول كاتدرائية القديسة أيا صوفيا إلى مسجد، وأطلق اسم إسلامبول -أي مدينة الإسلام- على القسطنطينية. 
 (السُلطان مُحمَّد يدخل القسطنطينيَّة)
وتحقق بذلك حلم المسلمين، وكان فتحها نهاية الدولة الرومانية الشرقية، ودخولها لأول مرة ضمن أراضي الإسلام، وبداية لسلسلة طويلة من الفتوحات والانتصارات العثمانية في البر والبحر، انتهت إلى أسوار فيينا في أوروبا.
ولذا عرف السلطان محمد الثاني بـ "محمد الفاتح" لأهمية فتح هذه المدينة.




[1] حسنه ابن عبد البر المالكي في الاستيعاب 1/250، وصححه السيوطي في الجامع الصغير 7209، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع 4655. والله أعلم.
[2] السلطان محمد بن السلطان مراد الثاني، خلف والده في السلطة عام 855هـ ، 1451م. تكلم بالفارسية والعربية واليونانية والسلافية، وناصر العلوم الإسلامية، وقرب إليه العلماء والأدباء والشعراء وأجزل لهم العطاء.
[3] الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر باليولوج (1404-1453) وكان آخر إمبراطورا لبيزنطيا حكم من 1449 حتى قتله العثمانيون يوم فتح القسطنطينية سنة 1453.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق