الجمعة، 28 مارس 2025

شرح (سر على مهلك) 3

 

هذه نفسك قد أهملتها

وعلى فعل الدُّنى ربيتها

كم لذِيذًا سالفًا غذيتها

(إن أهنا عيشة قضَّيتها)

(ذهبت لذّاتها والإِثمُ حلّ)

قال: (هذه نفسك قد أهملتها) وإهمال النفس يكون بترك ما ينفعها من فعل الخيرات، كطلب العلم، والحرص على الطاعات، واستغلال الأوقات، يقول: كل ذلك لم يكن منك، بل آثرت الكسل والدعة والمباحات فيما لا يعود عليك بالنفع.

بل تجاوز الأمر المباحات، فصرت: (على فعل الدُّنى ربيتها) أي: ربيت نفسك على الأمور الدنيئة، وأبعدتها عن معالي الأمور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كريمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ ويُحِبُّ معَالِي الأَخْلاقَ، ويَكْرَهُ ‌سَفْسَافَها"[1]، أَي: رديئها وحقيرها.

ومن الأمور الدنيئة: فعل ما يضع من قدر المرء، مثل: المجون، وهي البَذاءة وقِلَّة الحَياء، يُقَال: "يُفْسد الرجلَ ‌المجونُ كَمَا يُفْسد الماءَ الأجونُ"، أي: إذا تغير طعمه أو لونه أو رائحته بطول المكث.

قال: (كم لذِيذًا سالفًا غذيتها) كم هنا استفهامية؛ لأن مفردها منصوب، قال الحريري:

وكمْ إِذا جِئْتَ بهَا مُستَفهِمَا

فانصِبْ وقُلْ: كمْ كوكبًا تَحوي السَّمَا

يتساءل الناظم عن الملذات المحرمة التي نلتَها واستمتعتَ بلذتها، كم مرة كررتها وفعلتها؟! ويريد أنك أوقعت نفسك في كثير من الملذات المحرمة، لذلك قال بعدها مُرهِّباً ومذكراً:

(إن أهنا عيشة قضَّيتها .. ذهبت لذّاتها والإِثمُ حلّ) يعني: أنَّ أطيبَ وأحلى وألَذَّ معصية تمتعت بها، وقضيت وقتاً في التقلب فيها .. ذهبتْ ومرَّتْ وسرعان ما انقضتْ لذتها؛ (والإثمُ حَلْ) أي : ثبت عليك في صحيفة عملك.

قال تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ أي: مَن يعمل منكم عملًا سيئًا يجازَ به يوم القيامة، ما لم يتب.

فالعاقل يجعل الآخرة نصب عينيه، ولا يُقْدِم على أمرٍ يضره في الآخر ولو أحبه، قال الإمام أحمد: "الفُتُوَّةُ: تركُ ما تهوى لما تخشى".

وينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:

تفنى اللَذاذَةُ مِمَّن نالَ صَفوَتَها

مِنَ الحَرامِ وَيَبقى الإِثمُ وَالعارُ

تُبقي عَواقِبَ سوءٍ في مَغَبَّتِها

لا خَيرَ في لَذَةٍ مِن بَعدِها النارُ

وقال الحسين بن مُطير:

ونَفْسَكَ أكرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ

فما لك نفسٌ بعدها تستعيرُها

ولا تقرَبِ المَرْعى الحرام فإنَّما

حلاوتُه تَفْنَى ويبقى مَريرُها

ومما ورد في كف النفس عن الشهوة بعد التمكن منها مخافةَ الآخرة، ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر في الثلاثة الذين "أووا إلى غارٍ في الجبل، فانحطَّتْ عليهم صخرةٌ من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظرُوا أعمالًا صالحة عملتُمُوها، فادْعوا الله بها ... وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنةُ عمٍّ فأحببتُها كأشدِّ ما يُحبُّ الرِّجالُ النِّساءَ، فطلبتُ إليها نفسها، فامتنعت مني، حتى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ (أي: سنة مجاعة)، فجاءتني [محتاجة] فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ ‌الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركتُ الذَّهبَ الذي أعطيتها .. اللهم إن كنتُ فعلتُ ابتغاء وجهك، فَافْرُجْ عَنَّا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة".



[1] أخرجه الطبراني والحاكم، وانظر: الجامع الصغير وزيادته: ‌‌2682

هناك تعليق واحد: