الأحد، 16 مارس 2025

شرح (سر على مهلك) 1

التخميس فن من فنون البلاغة، ومن المحسنات الشعرية، وهو: أن تعمد إلى بيت فتقدم عليه ثلاثة أشطر على قافية الشطر الأول.

كالذي قام به الشَّيخ القاضي الفقيه العلَّامة الفَرَضي الفلكي الأديب الشَّاعر محمَّد بن العلَّامة القاضي عبد اللطيف بن محمود بن عبد الرَّحمن آل محمود، البحريني، الشَّافعي المتوفى (1390هـ) في تخميسه على لامية ابن الوردي‌، قال:

‌‌سِرْ على مَهلِك يا من قد عقل

واجتهد في الخير قولاً وعمل

وإذا ما شئت تسمو وتجلّ

(اعتزل ذكرَ الغواني والغزلْ)

(وقلِ الفصلَ وجانبْ مَن هزلْ)

ابتدأ الشاعر في مطلع قصيدته بعدة توجيهات ونصائح، فقال: 

‌‌- (سِرْ على مَهلِك يا من قد عقل): حث في هذه النصيحةِ العقلاءَ على الاعتدال في المشي بسكينة وطمأنينة؛ كقوله تعالى عن وصية لقمان لولده: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ [لقمان: 19]، أي: تواضع في مشيتك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتَّئِدْ.

وكما قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: 63]، أي: يمشون على الأرض بحلم، وسكينة، وتواضع، ووقار، وعِفَّة، قال الحسن البصري: "الهون في كلام العرب: اللِّين، والسَّكينة، والوقار".

والعجلة والإسراع في المشي منهي عنه حتى لأجل إدراك الصلاة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ ‌وَعَلَيْكُمُ ‌السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"[1].

ورأى عمر بن الخطاب غلامًا يتبختر في مشيته، فقال: "إنّ البخترة مِشيةٌ تُكْرَه إلا في [الجهاد] سبيل الله، وقد مدح الله أقوامًا، فقال﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾، فاقصِد في مشيتك".

وسرعة المشي تُذْهِبُ بهاء المؤمن، وكثرة الالفات تخرم المروءة؛ قال إبراهيم النخعي: "ليس من المروءة ‌كثرة ‌الالتفات في الطريق، ولا سرعة المشي"[2].

وكان العقلاء يعرفون الأحمق بعدة علامات، منها: ‌كثرة ‌الالتفات، وسرعة الجواب، والثِّقة بكلّ أحد[3].

- قال الشاعر: (واجتهد في الخير قولاً وعمل) وهذه نصيحة ثمينة، يحث فيها على المثابرة والاستكثار من الأعمال الصالحة القولية، مثل: قراءة القرآن، وذكر الله تعالى، وتعليم الناس الخير، وإرشاد عامتهم لما فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذب عن دين الله تعالى، وتفنيد الشبهات المثارة حول الإسلام ... إلخ.

والأعمال الصالحة البدنية، مثل: الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والمعاونة في الخير، وإماطة الأذى عن الطريق ... إلخ.

ومن الآيات الدالة على الحث والاجتهاد في الأعمال والأقوال الصالحة قوله تعالى عن الصالحين: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 17-18]، فجمعوا في ليلهم بين العمل والقول؛ الصلاة والاستغفار.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة اجتهاداً عظيماً؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ ‌عَبْدًا ‌شَكُورًا"[4].

وكذلك أرشد عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى ذلك؛ فعن ربيعةَ بن كعب الأسلميَّ رضي الله عنه قال: كنتُ أبيتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم آتيه بوَضوئه وبحاجته، فقال: "‌سلني" فقلت: مرافَقَتَك في الجنة، قال: "أو غيرَ ذلك" قلت: ‌هو ‌ذاك، قال: "فأعنِّي على نَفسِكَ بكثرةِ السُجود"[5].

وكان الصحابة يجتهدون في الخير حتى في السلام على الناس، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "إني لأغدو إلى ‌السوق، وما لي من ‌حاجة إلا أن أُسَلِّم ويُسَلَّم عَلَيَّ"[6].

- قال الشاعر: (وإذا ما شِئتَ تسمو وتُجلّ) أي: إن أردتَ أن يرتفع قدرك بين الورى، وتعظم في صدور الناس احتراماً ومهابة فـــــــ (اعتزل ذكرَ الغواني والغزلْ) أي: أترك ذكرَ الغواني مِنَ النساء؛ أي: المستغنِيات بحسنهنَّ وجمالهنَّ عنِ الزينة، فاتركِ التغزُّلَ فيهنَّ بالكلام الرقيق؛ لأنَّ التعلق بهنَّ يجرُّ إلى مفاسد كثيرة.

قال الأحنف بن قيس: ‌"جَنِّبُوا ‌مجالسَنا ‌ذِكْرَ النساء والطعام؛ فإني أبغض الرجل أن يكون وصَّافاً لفَرْجِهِ وبطنه"[7].

والفتنة بالنساء عظيمة، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، ‌وَاتَّقُوا ‌النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاء"[8]، فجعل النساء قسما مقابلاً للدنيا، بل بسببهن كانت أول فتنة بني إسرائيل.

وما أكثر الهلكى بسبب النساء وعشقهن، كمجنون ليلى، وعاشق اليمامة، والمخبَّل وميْلاء، وجميل بثينة، فمنهم مَن جُنَّ ومنهم مَن هلك، ومنهم مَن فسدت أعضاؤه!

قال ابن تيمية: "عشق الأجنبية فيه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو من الأمراض التي تُفسد دين صاحبها، ثم قد تفسد عقله ثم جسمه"[9].

وأهل الطِّب يجعلون العشق مرضاً دماغياً يتولد عن النظر والسماع[10]، لذلك سد الشرع هذين المنفذين، قال تعالى للنساء: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 32]، وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور: 30] ، وقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور: 31] 

قال جرير بن عبد الله: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نَظَرِ الْفُجَاءَةِ، فأمرني أن ‌أصرف بصري"[11].

ولا يتمكن العشق من قلوب أهل التوحيد والمحبة لله، فبسبب فراغ القلب تمكن منه العشق، قال قيس بن الملوح:

أَتاني هَواها قَبلَ أَن أَعرِفَ الهَوى

فَصادَفَ قَلباً خالِياً فَتَمَكَّنا

وفي ذلك يقول شيخ الإٍسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا كان القلب محبا لله وحده مخلصا له الدين، لم يبتلِ بحب غيره أصلا، فضلا أن يُبتلى بالعشق، وحيث ابتُلي بالعشق، فلنقص محبته لله وحده؛ ولهذا لما كان يوسف محبا لله مخلصا له الدين، لم يبتل بذلك، بل قال تعالى : (كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ)، وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها، فلهذا ابتليت بالعشق"[12].

والوقاية خير من العلاج، كما قال الشاعر:

إِنَّ ‌السَّلَامَةَ ‌مِنْ ‌سَلْمَى ‌وَجَارَتهَا

أَنْ لَا تَمُرَّ بِوَادٍ قُربَ واديها

ولا يزال أعداء الدين منذ عهد جريج العابد ينصبون لأهل الإيمان حبائل الشيطان، من العاهرات والمتبرجات؛ لأن القضاء على أي أمة يكون بإفساد نسائها وشبابها!

قال تعالى متوعداً أولئك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19].

وشدد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر التبرج والعُري فقال: ‌"صِنْفَانِ ‌مِنْ ‌أَهْلِ ‌النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا"[13].

- قال الشاعر: (وقلِ الفصلَ وجانبْ مَن هزلْ) مراده: اتبعِ الحقَّ في الأقوال والأفعال، واجتنب الباطل فيهما، وهذا مقتبَسٌ من قوله تعالى : ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ [الطارق: 13-14] أي: باللعب، وقيل: بالباطل، ويطلق الهزل على ما يقع بين أراذل الناس مِنْ كلماتِ مضحكةٍ أو رقصٍ أو نحو ذلك ، ويقرُبُ منه ما يقع بين الناس مِنَ المزاح المبالغ فيه؛ فإنَّه منهيٌّ عنه قديماً وحديثاً، شرعاً وعرفاً[14].

أما المداعبة والمزاح المنضبط فلا بأس به؛ قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: "‌إِنِّي ‌لَا ‌أَقُولُ ‌إِلَّا ‌حَقًّا"[15].

أما غير ذلك فقد يجر إلى مفاسد، كإيغار الصدور وزرع العداوة وذهاب المروءة؛ فقد كتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى عماله: "امعنوا الناس من ‌المزاح، فإنه يذهب بالمروءة، ويوغر الصدور".

وبعض الفئات ينبغي تجنب المزاح معهم، كالصبيان والسفلة، قال محمد بن المنكدر: "قالت لي أمي: لا تمازح الصبيان تهن عندهم".

فخلاصة أمر المزاح أن يكون معتدلاً؛ كالملح في الطعام، إن كثر فسد، وإن قَلَّ فسد.



[1] صحيح مسلم (2/ 100): 602، أما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9] فليس المراد بالسعي ههنا ‌المشي ‌السريع، ‌وإنما ‌هو ‌الاهتمام ‌بها. تفسير ابن كثير - ط ابن الجوزي (7/ 275)، كذلك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم "إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ ‌مِنْ ‌صَبَبٍ"، معناه: "كان عنده نشاط وحركة وقوة، ولم يكن عنده كسل وخمول، ولم يكن معه جري وعدو فيؤثر ذلك عليه، ويكون غير لائق، وإنما كان على هذه الحالة التي هي وسط". شرح سنن أبي داود للعباد (553/ 9 بترقيم الشاملة آليا).

[2] عيون الأخبار (1/ 412).

[3] نهاية الأرب في فنون الأدب (3/ 355).

[4] صحيح البخاري (4/ 1830): 4557، صحيح مسلم (8/ 141): 2820

[5] سنن أبي داود (2/ 486 ت الأرنؤوط): 1320.

[6] شعب الإيمان (11/ 206 ط الرشد).

[7] تاريخ دمشق لابن عساكر (24/ 346).

[8] صحيح مسلم (8/ 89): 2742.

[9] مجموع الفتاوى (10/132)

[10] شرح لامية ابن الوردي، المسمى: فتح الرحمن الرحيم، للشريف مسعود القناوي الحسيني الشافعي، (ص46).

[11] صحيح مسلم (6/ 181): 2159.

[12] مجموع الفتاوى (10/135)

[13] صحيح مسلم (6/ 168): 2128.

[14] شرح لامية ابن الوردي ص51.

[15] مسند أحمد (14/ 185 ط الرسالة): 8481. وإسناده حسن.

هناك 3 تعليقات:

  1. أحسنت دكتورنا الحبيب.
    فتح الله عليكم و زادكم من علمه و فضله .

    ردحذف