وداعاً أبا إسحاق
لا يختلف العقلاء بأن العلماء الربانيين هم ورثة الأنبياء، وأن الله تعالى يحفظ بهم الدين، فهُم الذين يجددون ما اندرس منه،
ويحيون بالوحي قلوب الغافلين؛ تعليماً وإرشاداً وتوجيها، فهُم الذين يقسمون ميراث
الأنبياء؛ مَرَّ أبو هريرة بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: "يَا
أَهْلَ السُّوقِ، مَا أَعْجَزَكُمْ! قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟
قَالَ: "ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ
هَاهُنَا لَا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ" قَالُوا: وَأَيْنَ
هُوَ؟ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ! فَخَرَجُوا سِرَاعًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَوَقَفَ
أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا:
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ
شَيْئًا يُقْسَمُ! فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ
أَحَدًا؟ قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ
الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو
هُرَيْرَةَ: وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم![1]
وفَقْدُ العلماء من أعظم المصائب التي تحل
في الديار؛ فنقصهم وفقدهم وموتهم يعني أن العِلْمَ سينقص ويفقد ويموت، بل سيُحرَّف
بعدهم عمداً أو جهلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا
يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ
الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ
رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"
متفق عليه.
بل قال
مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ} قال:
نقصها موت العلماء.
من أجل ذلك كان سلفنا الصالح يعرفون قيمة
العلماء، ويعرفون أن موتهم من أكبر المصائب، قال الحسن البصري: "كَانُوا يَقُولُونَ: مَوْتُ الْعَالِمِ ثلْمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ،
لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ"[2].
وقال هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ أَبُو الْعَلَاءِ:
سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا عَلَامَةُ
هَلَاكِ النَّاسِ؟ قَالَ: إِذَا هَلَكَ عُلَمَاؤُهُمْ"[3].
وأنشد بعضه هذا المعنى فقال:
الأرَضُ تَحْيَا إِذَا
مَا عَاشَ عَالِمُهَا |
مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ
مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ |
كَالأرْضِ تَحْيَا إَذَا
مَا الْغَيثُ حَلَّ بِهَا |
وإِنْ أَبَى عَادَ في
أَكْنَافِهَا الْتَلَفُ |
* * *
توفي اليوم الاثنين السابع عشر من شهر رمضان
لعام 1446 للهجرة (17 مارس 2025)، المحدث العالم الواعظ الشيخ أبو إسحاق حجازي محمد
شريف الحويني المصري، إثر وعكة صحية استدعت نقله إلى المستشفى، حيث فارق الحياة متأثرًا
بحالته الحرجة.
مولده:
وُلد الشيخ أبو إسحاق في العاشر من يونيو عام
1956م، في قرية حُوَين بمحافظة كفر الشيخ بمصر، وسماه
والدُه "حجازي" عند عودته من أداءِ فريضة الحج؛ من بلاد
الحجاز، وتَكنَّى في بداية طلبه للعلم "بأبي الفضل" لتعلقه بالمحدث الحافظ
ابن حجر، ثم اشتغل بكتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي، فحُبِّبَت إليه كنيتُه، وتعلق بها
أكثر لما علم أنها كنية الصحابي الجليل سعد بن أبي وقَّاص؛ فعُرفَ واشتَهَر بعد ذلك
بين الناس بأبي إسحاق الحويني.
طلبه العلم ودراسته الجامعية:
عشق أبو إسحاق الحويني منذ صِغره اللغة العربية وآدابها، فكان
يقرأ القصصَ الأدبية، والأشعار العربية، ثم حفظ القرآن على خاله عبد الحي زيَّان وكان
متقنًا للقراءات، وحضر دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي في الفقه
الشافعي، وحضر محاضرات الشيخ عبد الحميد كشك.
وفي المرحلة الجامعية التحقَ بجامعة عين شمس
في كلية الألْسُن قسم اللغة الإسبانية، وكان الأول على دفعته في كل الأعوام -عدا العام
الأخير كان الثاني-، إلا أن قلبه كان معلقاً بالحديث النبوي الشريف، فحتى مع دراسته
اللغة الإسبانية كان يستزيد من علم الحديث، خاصةً من كتب الشيخ العلامة ناصر الدين
الألباني، فكان الشيخ أبو إسحاق الحويني -رحمه الله- يرى أن دراسته لكتاب الشيخ محمد
ناصر الدين الألباني "السلسلة الضعيفة" مدَّة سنتين أيام دراسته الجامعية
كانت أعظمَ فائدةً من كل سِني التحصيل العلمي الأُخرى.
وكان إلى جانب دراسته الجامعية وطلبه العلم يعمل
في دكان "بقالة" صغيرة نهارًا، ويسهر ليلًا على مطالعة كتب الشيخ الألباني،
وعكف طويلا في مكتبة المصطفى للاجتهاد في طلب العلم.
وبعد تخرجه من الجامعة حصل على بعثة دراسية لاستكمال تعليمه في
إسبانيا، لكنه لم يستمرَّ طويلًا لكرهه المعيشة هناك.
رحلاته العلمية:
لشدة حبه للشيخ الألباني وإعجابه به سافر إلى
المملكة الأردنية الهاشمية مرتين (1407هـ، 1410هــ) لطلب العلم على يد الشيخ الألباني
رحمه الله، والشيخ أبو إسحاق يعتبر من أوائل طلبة الشيخ الألباني، ولكنَّ صحبته له
لم تكن بالطويلة، ومع ذلك كان مستغلاً للرحلتين استغلالاً كبيراً، فقد سأله قرابة مئتي
سؤال في الحديث وعلله وسائر أبواب الشريعة، وقد مدحه الشيخ الألباني حينما سئل عمن
يخلفه في المنهج العلمي فبدأ بالشيخ مقبل بن هادي الوادعي، ثم بالشيخ أبي إسحاق الحويني.
وسافر إلى المملكة العربية السعودية والتقى بالشيخ
صالح آل الشيخ، والشيخ ابن عثيمين، وتردَّد على المساجد والمجالس العلمية التي يقيمها
العلماء والمشايخ.
أبرز مشايخه:
- الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، حضر دروسه
بالجامع الكبير والمسجد الذي كان بجوار بيته بمدينة جُدَّة.
- الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، حضر
دروسه بالمسجد الحرام.
- الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وهو
أقرب مشايخه إلى قلبه، وقد تَتلْمَذ على يده وتأثَّر بكتبه وتحقيقاته الحديثية.
- الشيخ عبد الله بن قعود، حضر عنده شرح كتاب
"البرهان في أصول الفقه" لإمام الحرمين الجُوَيني، وكان القارئ يومئذٍ الشيخ
صالح آل الشيخ.
- الشيخ عبد الله بن جبرين.
- الشيخ محمد نجيب المُطيعي.
ثناء العلماء عليه:
أثنى عليه شيخه الإمام الألباني حين قال له:
"صَحَّ لك ما لم يصحَّ لغيرك"، وأثنى عليه في مواضعَ متفرقةٍ من كتبه، ووصفه
بـ "صديقنا الفاضل"، ووصفه أيضاً بأنه "من إخوانه الأقوياء في علم الحديث".
وأوصى به الشيخ عبد العزيز الراجحي، حين سأله
سائلٌ: على مَن أطلب العلم في مصر؟ فأجابه: "على أبي إسحاق الحويني، الشيخ أبو
إسحاق مُحدِّث، من علماء الحديث".
وقال الشيخ مشهور حسن آل سلمان قائلًا: "أشهد
الله أن أبا إسحاق من علماء الحديث، ومن أهل الحديث الراسخين فيه، ولم أرَ شيخنا الألباني
فرِحًا بأحدٍ كما رأيتُه فرحًا بقدوم الشيخ أبي إسحاق. ومجالسُهُ مع الشيخ الألباني
محفوظة، تُنبِئُ عن علمٍ غزير، بل عن تدقيقٍ قلَّ أن يصلَ إليه أحد".
مؤلفاته:
ترك الشيخ أبو إسحاق الحويني أكثر من مائة
مؤلَّف، وأبرزها:
1 - تخريج تفسير بن كثير
2 - الثمر الداني في الذب عن الألباني.
3 - تحقيق الديباج شرح صحيح مسلم للسيوطي.
4 - بذل الإحسان بتخريج سنن النسائي أبي عبد
الرحمن.
5 - تحقيق الناسخ والمنسوخ لابن شاهين.
6 - مسيس الحاجة إلي تخريج سنن بن ماجة.
7 - اتحاف الناقم بوهم الذهبي والحاكم.
8 - النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة.
9 - تنبيه الهاجد إلي ما وقع من النظر في كتب
الأماجد.
10 - شرح وتحقيق المغني عن الحفظ والكتاب بقولهم
لم يصح شيء في هذا الباب.
وله كثير
من الرسائل القصيرة، منها:
1 - سمط الآلي في الرد علي الغزالي.
2 - صحيح القصص النبوي.
3 - تحقيق فضائل فاطمة لابن شاهين.
4 - كشف المخبوء بثبوت حديث التسمية عند الوضوء.
5 - نهي الصحبة عن النزول بالركبة
وكان الشيخ أبو إسحاق الحويني -إلى جانب تأليفه- من المجتهدين في
الدعوة الي الله عز وجل لإرشاد الناس إلي دين الله رب العالمين، فكثرت دروسه
ومحاضراته على القنوات التلفزيونية والشبكة العنكبوتية.
فكان يخطب في مسجد ابن تيمية بمدينة كفر الشيخ،
ويلقي كلَّ يوم اثنين بين المغرب والعشاء محاضرة فيه، وظهر في قناة الندى الفضائية
-التي رأسَ لجنتها العلمية- في برنامج "أصداف اللؤلؤ"، وقدَّم برنامج
"فضفضة" على قناة الناس الفضائية.
فرِحمَ اللهُ
الشيخَ أبا إسحاق الحويني، وأنزله منازل الصالحين، وجزاه خيراً عن الإسلام والمسلمين.
[1]
المعجم الأوسط للطبراني (2/ 114): 1429
[2]
الزهد لأحمد بن حنبل (ص212): 1473.
[3]
مصنف ابن أبي شيبة (21/ 226 ت الشثري): 39989
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق