الأحد، 20 ديسمبر 2020

عِزَّةُ النَّفس

 

عِزَّةُ النَّفْسِ

العِزَّة والإيمان صِنْوَان لا يفترقان، فمتى وَقَرَ الإيمان في قلب الرَّجل، وتشبَّع به كيَانُه، واختلط بشِغَاف قلبه، تشرَّب العِزَّة مباشرةً.

والعِزَّة تَنْتُج عن معرفة الإنسان لنفسه، وتقديره لها، وترفُّعه بها عن أن تصيب الدَّنايا، أو تُصَاب بها، أو أن تَخْنَع لغير الله عزَّ وجلَّ أو أن تركع لسواه، أو أن تُدَاهن، وتحابي في دين الله عزَّ وجلَّ ، أو أن ترضى بالدَّنيَّة فيه، فهي نتيجة طبيعيَّة لهذه المعرفة.

* * *

والله سبحانه هو الذي يَهَب العِزَّة لمن يشاء، كما أنَّه يُذِلُّ من يشاء، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

فالعزة من الله تطلب ومنه توهب، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}.

ولذلك كان من دعاء بعض السَّلف: (اللهمَّ أعِزَّني بطاعتك، ولا تذلَّني بمعصيتك).

ولما طلب المنافقون العزة من غير الله تعالى؛ عاب الله عز وجل عليهم وتوعدهم، فقال تعالى:

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}.

فالله عز وجل يُعز الغريب، ويعز الفقير، ويعز الضعيف، وكل هذا مشروط بطاعته.

قال علي بن الحسين: "من أراد عزا بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل من ذُل معصية الله، إلى عز طاعته".

 * * *

ومن أعظم أسباب حصول العزة: الاستغناء عن الناس!

فعن جابر بن عبدالله وسهل بن سعد الساعدي قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريلُ، فقال: يا مُحمَّدُ ! عِشْ ما شِئتَ فإنَّك مَيِّتٌ، وأحْبِبْ من شِئتَ فإنَّكَ مُفارِقُه، واعمَل ما شِئتَ فإنَّك مَجْزِيٌّ بهِ، واعلَم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُه باللَّيلِ، وعِزُّه استِغناؤُه عن النَّاسِ"[1].

وعن سهل بن سعد قال: جاءَ رجلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ! دُلَّني على عَملٍ؛ إذا أنا عمِلتُه أحبَّني اللهُ وأحبَّني النَّاسُ؟ قال: "ازهَد في الدُّنيا يحبَّكَ اللهُ، وازهَدْ في ما عندَ النَّاسِ يحبَّكَ النَّاسُ"[2].

إن تطلع المرء إلى ما في أيدي الناس، وكثرةَ الطلب من منهم ينزعُ مهابته من صدورهم، وتورثه ذلاً في العاجلة والآجلة أمام الله عز وجل، أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَزالُ المَسْأَلَةُ بأَحَدِكُمْ حتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".

فاقطع الطمع مما في أيدي الناس بالقناعة، فإنها نِعم المعين على ذلك، ورحم الله الإمام الشافعي لما قال:

رَأَيتُ القَناعَةَ رَأس الغِنى         فَصِرتُ بِأَذيالِها مُمَتسِّكِ

فَلا ذا يَراني عَلى بابِهِ           وَلا ذا يَراني بِهِ مُنهَمِكِ

فَصِرتُ غَنيّاً بِلا دِرهَمِ           أَمُرُّ عَلى الناسِ شِبهَ المَلِكِ

 

ومما يذكر لنا التاريخ من صور العزة والتعفف، أن (والي الشام إبراهيم باشا بن محمد علي حاكم مصر دخل المسجد الأموي في وقتٍ كان فيه عالم الشام الشيخ سعيد الحلبي يلقي درسًا في المصلين، ومرَّ إبراهيم باشا من جانب الشيخ، وكان مادًّا رجله فلم يحركها، ولم يبدِّل جلسته، فاستاء إبراهيم باشا، واغتاظ غيظًا شديدًا، وخرج من المسجد، وقد أضمر في نفسه شرًّا بالشيخ.

وما أن وصل قصره حتى حف به المنافقون من كل جانب، يزينون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه، وما زالوا يؤلبونه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبلا بالسلاسل.

وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ، حتى عاد إبراهيم باشا فغيَّر رأيه، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبوابًا من المشاكل لا قِبل له بإغلاقها.

وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال، فإذا قَبِله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، يضمن ولاءه، ويسقط هيبته في نفوس المسلمين، فلا يبقى له تأثير عليهم.

وأسرع إبراهيم باشا فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلامذته ومريديه.

وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد، واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه، فألقى السلام، وقال للشيخ بصوت عالٍ سمعه كل من حول الشيخ: هذه ألف ليرة ذهبية، يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك.

فَنَظَر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير، وقال له بهدوء وسكينة: يا بُنَيّ، عُدْ بنقود سيدك وردها إليه، وقُلْ له: إن الذي يمدُّ رجله، لا يمد يده).

 

اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك..



[1] حسن، صحيح الجامع 73.

[2] صحيح الجامع 922.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق