السبت، 3 أغسطس 2019

الوَقْف الإسلامي


الوَقْف الإسلامي

 

لقد تشعّبت وتنوعت مصارف الأوقاف الإسلامية في عصورها المختلفة؛ لكننا نجد أن هذه المصارف والمؤسسات الوقفية كانت انعكاسًا لافتًا لمدى ذوق وسموّ الحضارة الإسلامية، ولدينا عشرات -إن لم يكن مئات- النماذج التي تُدلل على ذلك الرقي والإبداع والإنسانية، ولقد وقف الرحالة الأشهر ابن بطوطة منبهرًا بما رآه في أوقاف دمشق في القرن الثامن الهجري في ظل حكم المماليك البحرية قائلاً: "والأوقاف بدمشق لا تُحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها؛ فمنها أوقاف على العاجزين عن الحجِّ، يُعطى لمن يحجّ عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهنَّ، وهنَّ اللواتي لا قدرة لأهلهنَّ على تجهيزهنَّ، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل؛ يُعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزوَّدُون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها؛ لأن أزقَّة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمرُّ عليهما المترجِّلُون، ويمرُّ الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير"[1].

تعريف الوقف لغةً: مصدر وقَفَ الشيء، وحَبَسَه وسبله.

وتعريفه شرعًا: حبس مالكٍ مالَه المنتفَع به، مع بقاء عينه عن التصرفات برقبته، وتسبيل منفعته على شيء من أنول القُرب، ابتغاء وجه الله[2].

مثاله: أن يوقف داراً ويؤجرها، ويصرف الأجرة على المحتاجين، أو المساجد، أو طباعة الكتب الدينية أو نحو ذلك.

حكم الوقف: الاستحباب[3].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ" أخرجه ابن ماجه.

ونظمها الإمام السيوطي -رحمه الله- فقال:

إِذَا مَاتَ اِبْنُ آدَمَ لَيْسَ يَجْرِي    عَلَيْهِ مِنْ فِعَالٍ غَيْر عَشْر

عُلُومٌ بَثَّهَا، وَدُعَاءُ نَجْلٍ          وَغَرْسُ النَّخْلِ، وَالصَّدَقَاتُ تَجْرِي

وِرَاثَةُ مُصْحَفٍ، وَرِبَاطُ ثَغْر      وَحَفْرُ الْبِئْرِ، أَوْ إِجْرَاء نَهَر

وَبَيْتٌ لِلْغَرِيبِ بَنَاهُ يَأْوِي        إِلَيْهِ، أَوْ بَنَاهُ مَحَلّ ذِكْر

وَتَعْلِيم لِقُرْآنٍ كَرِيم               فَخُذْهَا مِنْ أَحَادِيث بِحَصْرِ

وقد وقف الصحابة المساجد والأراضي والآبار والحدائق والخيل، ولا يزال الناس يقفون من أموالهم إلى يومنا هذا.

وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "لم يكن أحدٌ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا مقدرةٍ إلاَّ وقف".

وقال الشافعي -رحمه الله-: بلغني أن ثمانين صحابيا من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمات[4].

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا"، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُبْتَاعُ، وَلاَ يُورَثُ، وَلاَ يُوهَبُ.

قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ[5].

فهذا مثال على الوقف في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهناك نماذج أخرى في زمن النبوة وما بعده.

ويتعلق بالوقف الأحكام الفقهية الآتية[6]:

1 - أن يكون الواقف جائز التصرف، عاقلاً بالغاً حراً رشيداً، فلا يصح الوقف من مجنون أو سفيه لا يحسن التصرف، أو مَن هو دون البلوغ، كذلك لا يصح الوقف من العبد المملوك لأنه لا مال له.

2 - كون الوقف مما ينتفع به انتفاعاً دائماً مع بقاء عينه، فلا يصح وقف الطعام؛ لأنه لا يبقى، بل ما تبقى عيبنه ولو زمنا طويلاً كالمباني والسيارات.

3 - أن يكون الوقف على بِرٍّ ومعروف، كالمساجد، والمساكين، وكتب العلم ونحو ذلك؛ لأنه قربة إلى الله تعالى، فيحرم الوقف على معابد الكفار، أو لشراء محرم كالخمر والخنزير وآلات المعازف.

4 - إذا تعطلت منافع الوقف، ولم يمكن الانتفاع به، فيباع، ويصرف ثمنه في مثله، فإن كان مسجداً صُرف ثمنه في مسجد آخر، أو كان داراً بيعت، واشتُري بثمنها دار أخرى؛ لأن ذلك أقرب إلى مقصود الواقف.

5 - الوقف عقد لازم، يثبت بمجرد القول، ولا يجوز فسخه، ولا بيعه، ولا هبته، ولا يكون ميراثاً.

6 - أن يكون الموقوف معيناً، فلا يصح وقف غير المعين، فلا يصح أن يقول: وقفت عمارتي لله على الفقراء، وعنده أكثر من عمارة.

7 - أن يكون الوقف منجزاً، فلا يصح الوقف المعلَّق، كقوله: إن زوَّجني فلان ابنته فبيتي وقف، ولا المؤقت، كقوله: سيارتي وقف لمدة عام، إلا على موته فيصح، كأن يقول: مكتبتي بعد وفاتي وقف لله.

8 - يجب العمل بشرط الواقف، إذا كان لا يخالف الشرع، كأن ينص الواقف على أن ريع مزرعته لطلبة العلم، فلا يجوز تغيير ما أراده.

9 - إذا وقف على أولاده استوى فيه الذكور والإناث، أي: إذا قال: ريع هذه العمارة لأولادي، تُعطى البنت مثل الولد، لأنه ليس ميراثاً.



ومن أغرب ما تناوله ابن بطوطة "أوقاف الأواني"؛ إذ قال عن تجربة شخصيَّة له بخصوص هذا الوقف: "مررتُ يومًا ببعض أزقَّة دمشق فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يُسَمُّونها الصَّحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجمع شقفها، واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجمعها، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إيَّاها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال؛ فإن سيِّدَ الغلام لا بُدَّ له أن يضربه على كسر الصحن، أو ينهره، وهو -أيضًا- ينكسر قلبه، ويتغيَّر لأجل ذلك؛ فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب، جزى الله خيرًا من تسامت همَّته في الخير إلى مثل هذا".

وأبدع المسلمون في وقف المستشفيات؛ حتى إننا وجدنا في ذلك العصر شروطًا تدلُّ على مدى التقدم والرحمة التي بلغتها هذه الحضارة آنذاك؛ فلقد كان يُذكر في نصِّ الوقفيَّة وجوب تقديم طعام كلِّ مريض في إناء مستقلٍّ خاصٍّ به من غير أن يستعملها مريض آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل، وقد خُصِّص في البيمارستانات "المستشفيات" قاعات مستقلة للمؤرَّقين من المرضى؛ إذ كانوا يُعزلون فيها، فيُشَنِّفون آذانهم بسماع الأناشيد، والاستماع إلى القصص التي يرويها عليهم القُصّاص حتى يغلبهم النوم؛ وقد ظَلَّتْ هذه العادة حتى دخول الحملة الفرنسيَّة إلى مصر عام (1798م)، فشاهدها العلماء الفرنسيون بأنفسهم وكتبوا عنها.

ومن الأوقاف الغريبة والنافعة في عهد العثمانيين ما ذكره الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله أنه حُكي له عن وقف غريب في مدينة طرابلس الشام؛ كان ريعه مخصَّصًا لتوظيف اثنين يمرَّان في المستشفيات يوميًّا؛ فيتحدَّثان بجانب المرضى حديثًا خافتًا؛ ليَسْمَعَه المريض بما يوحي له بتحسُّنِ حالته، واحمرار وجهه، وبريق عينيه!

واهتمَّ العثمانيون بوقف المدارس والمكتبات العامَّة، فقلما خلت مدينة تابعة للدولة العثمانيَّة من إنشاء مدرسة موقوفة لكافة طلابها من أبناء الفقراء والأغنياء؛ فمن أشهر هذه المدارس: مدرسة السلطان مراد ببلدة مغنيسا، ومدرسة السلطان سليم الأول بقسطنطينية، ومدرسة السلطان أحمد، فهذه المدارس وغيرها كانت في العاصمة وحواليها؛ ووُجدت مدارس أخرى؛ مثل: المدرسة السلطانيَّة المراديَّة بمكة، ومدرسة السلطان عبد الحميد[7].





[1] https://midan.aljazeera.net/reality/community/2017/2/27/%D9%85%D9%86-%D8%B9%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%82%D8%A7%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9

[2] قال الشيخ البسام رحمه الله: " أمَّا أن يحجر على أولاده وورثته باسم الوقف لئلا يبيعوه، فمثل هذا لا يُعطى حكم الوقف من حيث الثواب والفضل، وإن أخذ حكمه من حيث اللزوم عند كثير من الفقهاء.
وأما أن تكثر ديونه فيقف العقار خشية أن يباع لإيفاء أصحاب الحقوق، أو يقفه على أولاده، فيحابي بعضهم، ويحرم بعضهم، أو يفضل بعضهم على بعض بلا مسوِّغ شرعي.
فمثل هذا لا يعطى حكم الوقف من حيث الثواب والفضل، وإن أخذ حكمه من حيث اللزوم عند كثير من الفقهاء، وبهذا يدخل في باب الظلم بدلاً من باب البر؛ لأنَّه ليس على مراد الله تعالى". توضيح الأحكام من بلوغ المرام 5/98

[3] توضيح الأحكام من بلوغ المرام 5/97

[4] والشافعي يسمى الأوقاف الصدقات المحرمات.

[5] متفق عليه.

[6] الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة ص 267 (بتصرف).


[7] https://midan.aljazeera.net/reality/community/2017/2/27/%D9%85%D9%86-%D8%B9%D8%AC%D8%A7%D8%A6%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%82%D8%A7%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق