الخميس، 22 أغسطس 2019

مواطن استقرار الأئمة أصحاب الكتب الستة


مواطن استقرار الأئمة أصحاب الكتب الستة 


إن أئمة النُقَّاد من المحدثين والمؤلفين في كتب الرجال والجرح والتعديل يهتمون اهتاماً بالغاً في تفاصيل تراجم الرُّواة، ومن تلك التفاصيل: معرفة حياتهم زماناً ومكاناً، تواريخ المواليد والوفيات، وأين كانت رحلتهم في طلب العلم، وأين استقروا، وممن سمعوا الحديث، ومَن سمع منهم، كل ذلك، للتأكد من سلامة سلسلة الرجال الموصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكشف كذب الكذابين.
ومما يذكر من ذلك ما أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" تحت عنوان (امْتِحَانُ الرَّاوِي بِالسُّؤَالِ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمِعَ فِيهِ): 
عَنْ حَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ، قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: " أَيْنَ سَمِعْتَهُ مِنْهُ؟ قَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا عَلَى فَرَسٍ لَهُ فِي مَجْلِسٍ فِي جَبَّانَةِ السَّبِيعِ".
وقال أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ: " سَأَلْتُ مُجَاهِدَ بْنَ مُوسَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ، يَعْنِي النَّخَعِيَّ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ أَيْنَ لَقِيتَهُ؟ فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُ عَنْهُ حَتَّى هَيَّأْتُ لَهُ الْجَوَّابَ، لَقِيتُهُ بِالْبَابِ وَالْأَبْوَابِ " قَالَ مُجَاهِدٌ: دَلَّنِي عَلَى مَكَانٍ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ "!
وذكر عنوانا آخر (كَتْبُ التَّوَارِيخِ):
عن الْحَسَن بْن الرَّبِيعِ، أنه قال: " قَدِمْتُ بَغْدَادَ فَلَمَّا خَرَجْتُ شَيَّعَنِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَلَمَّا بَرَزْتُ إِلَى خَارِجٍ قَالَ لِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ: تَوَقَّفْ فَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَجِيءُ فَتَوَقَّفْتُ فَجَاءَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَعَدَ فَأَخْرَجَ أَلْوَاحَهُ فَقَالَ يَا أَبَا عَلِيٍّ: أَمِلَّ عَلَيَّ وَفَاةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فِي أَيِّ سَنَةٍ مَاتَ؟ فَقُلْتُ: سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ فَقِيلَ لَهُ: مَا تُرِيدُ بِهَذَا؟ فَقَالَ: «أُرِيدُ الْكَذَّابِينَ».
وقَدِمَ أَبُو حُذَيْفَةَ الْبُخَارِيُّ مَكَّةَ وَجَعَلَ يَرْوِي عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ طَاوُسٍ فَقِيلَ لِسُفْيَانَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ قَدِمَ يَرْوِي عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ فَقَالَ: " سَلُوهُ فِي أَيِّ سَنَةٍ سَمِعَ؟ قَالَ: فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِعَ فِيَ سَنَةِ كَذَا. فَقَالَ سُفْيَانُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ قَبْلَ مَوْلِدِهِ بِسَنَتَيْنِ ".
قال حَسَّانُ بْنُ زَيْدٍ: " لَمْ نَسْتَعِنْ عَلَى الْكَذَّابِينَ بِمِثْلِ التَّارِيخِ، نَقُولُ لِلشَّيْخِ: سَنَةَ كَمْ وُلِدْتَ؟ فَإِذَا أَخْبَرَ بِمَوْلِدِهِ عَرَفْنَا كَذِبَهُ مِنْ صِدْقِهِ ".

فأحببتُ أن أشير إلى شيء من ذلك، واخترت أشهر أئمة الحديث وأين حطوا رحالهم ونشروا علمهم، فوقع الاختيار على أصحاب الكتب الستة.

1-الإمام محمد بن إسماعيل البخاري:
لم يرجع البخاري إلى بُخارى للاستقرار فيها لكثرة المخالفين له، ولكن حط رحاله في نيسابور، وقال محمد بن يحي الذهلي شيخ نيسابور لأهلها عند قدوم البخاري: "اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه"، فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه، حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحي، فحسده بعد ذلك وتكلم فيه، وتكلم في البخاري في مسألة (اللفظ بالقرآن؟ مخلوق هو أم غير مخلوق؟)[1].
وقال الذهلي: "لا يساكنني هذا الرجل في البلد"[2]، فخشي البخاري على نفسه وسافر إلى بُخارى.
ولما قدم البخاري بخارى استقبله أهلها استقبالاً عظيماً، وبقي أياماً على الحفاوة والتكريم، فكتب بعدها محمد بن يحي الذهلي، إلى خالد بن أحمد أمير بخاري "إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة"، فأمره الأمير بالخروج من البلد، وقيل: سبب طرده من بخارى أنه رفض أن يأتي الأمير ويُسمِعه الجامع الصحيح؛ لأن العلم يُؤتى له ولا يأتي[3].
فخرج إلى "خرتنك" وهي قرية على فرسخين من سمرقند، كان له بها أقرباء فبقي فيها أياماً قليلة، ثم توفي رحمه الله[4].
فالذي يظهر مما سبق أن البخاري رحمه الله استقر في نيسابور يحدث الناس حتى خرج ولم يستقر بعدها في بلدٍ حتى توفي.

2-الإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري:
الذي يبدو لي أنه استقر في نيسابور وتوفي بها، قال الإمام الذهبي: "عُقِد لمسلم مجلس المذاكرة -في نيسابور-، فذُكِر له حديث لم يعرفه، فانصرف إِلَى منزله وأوقد السِّراج، وقَالَ لِمن فِي الدّار: "لا يدخل أحدٌ منكم"، فَقِيلَ له: "أُهْدِيَتْ لنا سلّةُ تمر"، فقال: "قدِّموها"، فقدَّموها إليه، فكان يطلب الحديث، ويأخذ تمرة تمرة، فأصبح وقد فَنِي التّمرْ ووجد الحديث.
رواها الحاكم ثُمَّ قَالَ: "زادني الثّقة من أصحابنا أنّه منها مات".
وقال الحاكم: " تُوُفيّ مُسْلِم يوم الأحد، ودُفِنَ يوم الإثنين لخمسٍ بقين من رجب سنة إحدى وستيّن ومائتين" قال الذهبي: وقبره مشهور بنيسابور ويزار"[5].

3-الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث:
استقر -رحمه الله- في البصرة وروى بها كتابه "السنن" إلى أن توفي سنة 275 هـ.
قال الخطابي: حدثني عبد الله بن محمد المسكي، حدثني أبو بكر بن جابر خادم أبي داود -رحمه الله- قال: كنت مع أبي داود ببغداد، فصلينا المغرب، فجاءه الأمير أبو أحمد الموفق -يعني: ولي العهد- فدخل، ثم أقبل عليه أبو داود، فقال: ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟
قال: خلال ثلاث.
قال: وما هي؟
قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنا، ليرحل إليك طلبة العلم، فتعمر بك، فإنها قد خربت، وانقطع عنها الناس، لما جرى عليها من محنة الزنج[6].
فقال: هذه واحدة.
قال: وتروي لأولادي (السنن).
قال: نعم، هات الثالثة.
قال: وتفرد لهم مجلسا، فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة.
قال: أما هذه فلا سبيل إليها، لأن الناس في العلم سواء.
قال ابن جابر: فكانوا يحضرون ويسمعون مع العامة"[7].

4-الإمام محمد بن عيسى الترمذي:
استقر في ترمذ، وصار يحدث بكتابه السنن، وتوفي بها، جاء في ترجمة أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي -أحد رواة سنن الترمذي-: أنه رحل إلى ترمذ للقي أبي عيسى الترمذي في سنة خمس وستين ومائتين، وهو ابن ست عشرة سنة.[8]
قال الذهبي: وتوفي الترمذي سنة تسع وسبعين بترمذ.[9]
فهذا يدل على أن الترمذي استقر في ترمذ يُقرئ سننه لمدة لا تقل عن أربع عشرة سنة.

5-الإمام أحمد بن شعيب النسائي:
دخل مصر واستقر بها، وخرج منها قبل وفاته بثلاثة أشهر، قال ابن يونس في تاريخه:
" قدم مصر قديما، وكتب بها، وكُتب عنه، وكان إماما في الحديث، ثقة ثبتا حافظا، وكان خروجه من مصر في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة، وتوفى بفلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة"[10].

6-الإمام محمد بن يزيد القزويني – ابن ماجه:
جاء في ترجمته: "بعد أن عاد الإمام ابن ماجه -رحمه الله- من رحلته الطويلة، واستقر في بلده "قزوين"، وقد طبقت شهرته الآفاق، وصار حافظ قزوين، أقبل عليه طلاب العلم من كل مكان"[11].
وتوفي رحمه الله في بلده قزوين سنة ثلاث وسبعين ومائتين[12].


[1] قال الذهبي: "سُئل البخاري عن مسألة اللفظ مخلوق، فوقف واحتج بأن أفعالنا مخلوقة واستدل لذلك، ففهم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ، فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو وغيره". سير أعلام النبلاء 12/457
[2] فتح الباري 1/491
[3] منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها (من خلال الجامع الصحيح) لأبي بكر كافي، ص52.
[4] منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها (من خلال الجامع الصحيح) لأبي بكر كافي، ص52.
[5] تاريخ الإسلام 6/430
[6] كانت ثورة بارزة على الخلافة العباسية في منتصف القرن الثالث الهجري، تمركزت حول مدينة البصرة، جنوب العراق اليوم، وامتدت لأكثر من 14 عاما (255 - 270هـ) قبل أن تنجح الدولة العباسية في هزيمتها، ويعتقد أن الحركة بدأت بزنوج من شرق افريقيا استعبدوا وجيء بهم إلى تلك المنطقة فثاروا على المالكين، وتفاقم الأمر حتى صارت تهدد الخلافة.
[7] سير أعلام النبلاء 13/ 216
[8] سير أعلام النبلاء 15/537
[9] تاريخ الإسلام 6/617
[10] تاريخ ابن يونس 2/24
[11] المدخل إلى سنن ابن ماجه ص32
[12] تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 155

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق