السبت، 3 أغسطس 2019

مُرُوجًا وَأَنْهَارًا

 مُرُوجًا وَأَنْهَارًا



بعث الله عز وجل نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق، وأيَّده بالمعجزات والبراهين، ومن معجزاته -عليه الصلاة والسلام- أنه يُخبر بما سيكون في السنين القادمة إلى قيام الساعة، وبعض ما أخبر به وقع فعلاً وبعضه سيقع حتماً؛ لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
والحكمة من إظهار بعض المغيبات للناس هو دعوتهم للإيمان وتثبيت المؤمنين، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} والمراد بالآفاق: أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم وما يترتب عليها من الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات ومن النبات والأشجار والأنهار[1].
وفي أحاديث فتن آخر الزمان وأشراط الساعة، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا».
أي حتى ترجع "مُروجا" أي: رياضاً كما كانت بنباتاتها وأشجارها وأثمارها، ومِياهاً كثيرة جارية في أنهارها.
والمراد من أرض العرب: الجزيرة العربية[2].
وفي هذه الجملة الأخيرة من الحديث "وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا" دليل أن أرض العرب كانت رياضاً خضراء مترعة بالمياه والأنهار، وأنها صارت صحراء قاحلة، ثم تعود كما كانت مروجاً وأنهاراً.
أما أنها كانت مروجاً وأنهاراً فلا شك أنها كذلك؛ لإخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك وهو الصادق المصدوق، ولثبوت ذلك في الأخبار السابقة، والدراسات المعاصرة.
قال المظهري: "قيل: في زمانٍ قديمٍ كان أكثر أرض العرب مُرُوجًا وصحارى متدفقة بالمياه ذات أشجار وثمار، فتبدل العمران بالخراب، والريف بالتَّباب، والاجتماع بالافتراق، وذلك دأبُ الله تعالى في البلاد والعباد، كذا ذكره عبد المسيح بن بقيلة الغساني لخالد بن الوليد حين ورد العراق غازيًا في خلافة الصديق مع جمهور الصحابة، وقد كان نصرانيًا"[3].
ويقول عن ذلك الدكتور أحمد فخري في كتابه "دراسات في تاريخ الشرق القديم": "كانت الجزيرة العربية منطقة خضراء خصبة فيها المراعي والغابات، فأخذت تجف شيئاً فشيئاً، وأخذت الرياح الجنوبية الشديدة تغطي مراعيها، على أن بلاد اليمن من الجزيرة العربية وكانت مروجاً وأنهاراً كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال}".
ويقول البروفيسور مايكل بترجليا Michael Petraglia بجامعة أكسفورد: "أن تكنولوجيا مكوك الفضاء المبتكرة قد سمحت لنا برسم خرائط لأكثر من 10 آلاف بحيرة تتخلل جميع أنحاء المملكة العربية السعودية بما فى ذلك صحراء النفود الكبير القاحلة، هذا الاكتشاف متصل مباشرة مع اكتشاف بقايا الفيلة وافراس النهر والتماسيح والرخويات".
 
وأما أنها صحراء قاحلة، فهذا مشاهد في الواقع!

ويبقى السؤال: ما معنى عودتها مروجاً وأنهاراً؟
المتبادر إلى ذهن القارئ أن عودة الجزيرة مروجاً وأنهاراً سيكون عن طريق تغير مناخي تتغير فيه معادلة المناخ العالمي الحالي، لكني في الحقيقة وجدت كلام جمعٍ من أهل العلم فسروه بما لا يتوافق مع ظاهر السياق:
فقال أبو العباس القرطبي (المتوفى: 656هـ): "تنصرف دواعي العرب عن مقتضَى عاداتهم من انتجاع الغيث، والارتحال في المواطن للحروب والغارات، ومن نخوة النفوس العربيّة الكريمة الأبيّة إلى أن يتقاعدوا عن ذلك، فينشغلوا بغراسة الأرض، وعمارتها، وإجراء مياهها، كما قد شوهد في كثير من بلادهم وأحوالهم"[4].
وقال النووي (المتوفى: 676هـ): "معناه والله أعلم أنهم يتركونها ويعرضون عنها فتبقى مهملة لا تزرع ولا تسقى من مياهها وذلك لقلة الرجال وكثرة الحروب وتراكم الفتن وقرب الساعة وقلة الآمال وعدم الفراغ لذلك والاهتمام به"[5].
وقال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإتيوبي -حفظه الله-: "المراد إقبال العرب على استثمار أراضيها، وإحيائها، بإجراء الأنهار، وغرس الأشجار، وزرع الحبوب، وتركها ارتحالها وتنقّلاتها من مكان إلى مكان؛ طلبًا للكلأ، على ما هو المعتاد لها، فإن هذا هو المطابق للواقع، كما هو مشاهدٌ اليومَ في المملكة العربيّة السعوديّة، وغيرها من البلاد العربيّة، ففيه عَلَم من أعلام النبوّة حيث وقع ما أخبر به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، كما أخبر، والله تعالى أعلم"[6].
والحقيقة أن تفسيراتهم للحديث لم تستند إلى نصوص قرآنية أو سنة نبوية؛ إنما هي اجتهادات منهم ومحاولة لفهم هذا الخبر النبوي، ولكني وجدت بعض الدراسات العلمية -وإن لم تكن شرعية- ترجح كون أن هذا التغيّر القادم إنما هو بسبب تغير نظام المناخ العالمي، ولا شك أن مَن كان عنده مستند علمي أولى بالإقناع ممن لا دليل عنده إلا مجرد الاجتهاد -المأجور-.
يقول الدكتور الجغرافي عبد الله المسند: "ربما تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً من باب التغير المناخي".
وقال أيضاً: "ويمكن أن نصنف هذه العلامة بأنها علامة كونية مناخية".
وهذا بحث وافٍ من الهيئة العالمية للكتاب والسنة حول هذا الإعجاز 
وهذا مقطع، يشرح خلاصة تلك الدراسات التي تبين كيف كان العالم وما سيكون عليه حسب الدراسات المعاصرة، والله أعلى وأعلم:





[1] تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (26/ 20)
[2] فتح المنعم شرح صحيح مسلم (4/ 341) 
[3] المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 392)
[4] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 57)
[5] شرح النووي على مسلم (7/ 97)
[6] البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (19/ 369)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق