الأربعاء، 28 أغسطس 2019

أسباب تشدد بعض أئمة الجرح والتعديل


أسباب تشدد بعض أئمة الجرح والتعديل 



لعل الباحث في علم الحديث والناظر في كلام نقاده يلاحظ أنهم ليسوا على درجة واحدة في النقد والكلام في الرُّواة، فمن النقاد مَن لا يُلتفت إلى قوله -غالبا- خصوصاً إن خالف غيره من النقاد، كأبي الفتح الأزدي فإ، كثيراً من نقده في غير محله، ومنهم مَن يؤخذ كلامه بعين الاعتبار ولو خالفه غيرُه كالبخاري وأحمد.
وما هذا الإعراض عن بعضهم وقبول قول الآخر إلا لأن بعضهم قد يتشدد في النقد بغير وجه حق، والآخرين سلموا غالباً من تلك الزلات.
فبعضهم تحمله العداوة الشخصية على النقد غير المنصف، وبعضهم تحمله المحامل العقدية والخلافات السياسية على ذلك، وبعضهم نشأ وتتلمذ في بيئة متشددة ... إالخ. 

وقد ذكر الإمام الذهبي بعضَ الأئمة الذين يعتبرون من المتشددين في الجرح، فذكر منهم: يحيى بن سعيد القطان[1]، أبا حاتم الرازي، والإمام النسائي[3].
وهؤلاء لا يُطرح قولهم، بل هم من أئمة هذا الشأن، ولكنك قد ترى النقاد متفقون على تعديل بعض الرواة، ويأتي بعد المتشددين فيخالف هذا الاتفاق، فنقول عند ذلك: لا عبرة بقد النسائي -مثلاً- مقابل هؤلاء المعدِّلين.
ولا يخلو كل ناقد من هؤلاء المتشددين من سبب يدعوه إلى التشدد، سواء كان ظاهراً هذا السبب أم خفياً.
يحيى بن سعيد القطان:
من أسباب تشدده:
1-ما يكون بين الأقران، قال ابن حجر -رحمه الله-: "يحيى بن سعيد شديد التعنت في الرجال لا سيما مَن كان من أقرانه"[4].
والقرين قد يتحامل على قرينه بغير حق، لما جُبلت عليه النفوس من المنافسة، وخفايا الطباع، وقد قال الذهبي: " كلام الأقران بعضِهم في بعضٍ لا يعبأ به لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلَّا من عصم الله، وما علمت أنَّ عصرًا من الأعصار سَلِمَ أهلُهُ من ذلك سِوَى الأنبياءِ والصدِّيقين ولو شئتُ لسَرَدْتُ من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم"[5].
2- ولكونه من أخص تلاميذ شعبة بن الحجاج، كان يقول: "لزمت شعبة عشرين سنة"[6].
وذكر المزي عن " أبي سُلَيْمان قرة بن سُلَيْمان الجهضمي، قال لي مالك: شعبتكم تشدد في الرجال"[7].
3-ولكونه يخاف الله عز وجل إن سكت عن المجروحين؛ عن ‏أبي بكر بن خلاد‏ قال : قلت ‏ليحيى بن سعيد: "أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة ؟! فقال‏: لأَنْ يكونوا خصمائي أحب إلى من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: " لِـمَ لَـمْ تذب الكذب عن حديثي‏؟"[8].
4-ولكونه نشأ في مدرسة البصرة، وهي بيئة يكثر فيها الوضع والتدليس والإرسال[9]، فتحتاج ردة الفعل أن تكون شديدة تجاه هؤلاء.

أبو حاتم الرازي:
لم أجد فيه سبباً حمله على التعنت إلا ما ذكره ابن حجر قال: " قال مسلمة في "الصلة" كان -أبو حاتم- ثقة وكان شيعيا مفرطا وحديثه مستقيم"، ثم عقَّب عليه ابن حجر قائلاً: "ولم أر من نسبة إلى التشيع غير هذا الرجل نعم ذكر السليماني ابنه عبد الرحمن من الشيعة الذين كانوا يقدمون عليا على عثمان كالأعمش وعبد الرزاق فلعله تلقف ذلك من أبيه"[10].
فيكون هذا -إن صح- من أسباب الاختلاف العقدي.

النسائي:
1-لكونه معجباً بمنهج المتشددين، قال: "أمناء الله على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: شعبة، ومالك، ويحيى القطان"[11].
وقد مرَّ الكلام عن شعبة ويحيى القطان، أما الإمام مالك فكان متشدداً في جانب التحديث، فكان لا يحدث عن الضعفاء، قال ابن حبان: " وَكَانَ مَالك رَحمَه اللَّه أول من انتقى الرِّجَال من الْفُقَهَاء بِالْمَدِينَةِ وَأعْرض عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة فِي الحَدِيث وَلم يكن يروي إِلَّا مَا صَحَّ وَلَا يحدث إِلَّا عَنْ ثِقَة"[12].
2-العداوة الشخصية، كما حصل منه مع أحمد بن صالح المصري، قال ابن حجر: "وأما سوء ثناء النسائي عليه فسمعت محمد بن هارون بن حسان البرقي يقول: "هذا الخراساني يتكلم في أحمد بن صالح، وحضرت مجلس أحمد فطرده من مجلسه فحمله ذلك على أن يتكلم فيه"[13].
3-وبسبب التعصب العقدي، قال شيخ الإسلام: "وتشيَّعَ بعضُ أهلِ العلم بالحديثِ؛ كالنسائيِّ"[14].
وقال الذَّهبي: "فيه قليل تَشَيُّعٍ وانحرافٍ عنْ خُصوم الإمام علي كمعاويةَ وعمروٍ، والله يُسامحه"[15].
تنبيه: قال ابن حجر: "التشيُّع في عُرف المتقدمين: هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان، وأن عليا كان مصيبا في حروبه، وأن مخالفه مخطئ، مع تقديم الشيخين وتفضيلهما، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإذا كان مُعتقِدُ ذلك ورِعا دَيِّنا صادقا مجتهدا فلا تُرد روايته بهذا؛ لا سيما إن كان غير داعية.
وأما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرَّفض المحض، فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة"[16].

قلت: ولعل هذه المقالة تكون نواةً لبحث يستقصي أسباب تشدد مَن وُصِف بذلك.



[1] ميزان الاعتدال 2/171 قال الذهبي: "يحيى متعنت جدا في الرجال".
[3] سير أعلام النبلاء 9/ 228 قال الذهبي: "وحسبك بالنسائي وتعنته في النقد".
[4] فتح الباري 1/427
[5] ميزان الاعتدال 1/111
[6] سير أعلام النبلاء 9/177
[7] تهذيب الكمال 13/503
[8] علوم الحديث لابن الصلاح ص389
[9] مدرسة الحديث في البصرة حتى القرن الثالث الهجري ص525
[10] تهذيب التهذيب 9/34
[11] سير أعلام النبلاء 9/181
[12] الثقات لابن حبان 7/ 459
[13] تهذيب التهذيب 1/41
[14] منهاج السنة 7/373
[15] سير أعلام النبلاء 14/133
[16] تهذيب التهذيب 1/94

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق