السبت، 17 أغسطس 2019

الملجأُ العامُّ


الملجأُ العامُّ


الإنسان كائن ذو مشاعر متعددة؛ فتارة يشعر بالأمن وتارة يشعر بالخوف، وأحياناً يشعر بالفرح وأحياناً يشعر بالحزن، وأحياناً يضحك وأحياناً يبكي ... إلخ.
ويفترق الناس باختيارهم الوسائل والسبل لإزالة تلك المشاعر السيئة وجلب المشاعر الجيدة، فمنهم مَن يخرج بحثاً عن آخرين من بني جنسه يأنس بهم وينسى همومه معهم، وبعضهم يتوسع في المباحات ويكاد يلامس المحرمات؛ بحثاً عن الترفيه، وآخرون يلجؤون إلى المحرمات كشرب الخمر وتعاطي المخدرات وممارسة الفاحشة والرذيلة!
وصِنْفٌ من الناس -الموفقين- يلجؤون إلى بيوت الله؛ حيث يجدون راحتهم ويأنسون بمناجاة ربِّهم، ويكُونون كالثلاثة[1] الذين {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ}، نعم .. إن المساجد ملاذ المؤمنين وأُنْسُ المتقين، فلا حُجَّاب يحجبون الداخلين إليها، ولا رسوم ولا ضرائب تؤخذ من الواردين عليها، بل أمر الله بتشييدها وذِكره فيها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}.
فالمساجد بيوت الرحمن وأحب البِقاع إليه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ البِلَادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلَادِ إلى اللهِ أَسْوَاقُهَا"[2].
وحذر مَن منع مساجد الله وطرد قاصديها، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وخرابها: بالهدم، أو بتعطيلها عن الصلاة والذكر، ومنع الناس من دخولها[3].
وبشِّر الذي امتلأ قلبه بحب المساجد بالظلِّ يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ [وفي رواية: سبعَةٌ في ظلِّ العرشِ][4] ... ورَجُلٌ مُعَلَّقٌ بالمَسْجِدِ، إذا خَرَجَ منه حتَّى يَعُودَ إلَيْهِ"[5].


وتتنزل الرحمات وتُمنح الأُعطيات لمن كانت المساجد بمنزلة بيته، ولا يكون ذلك إلا من المتقين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسجدُ بيتُ كلِّ تقيٍّ، وتكفَّلَ اللهُ لمَن كان المسجدُ بيتهُ بالرَّوحِ والرَّحمةِ، والجَوازِ على الصِّراطِ إلى رِضوانِ اللهِ؛ إلى الجنَّةِ"[6]. والرَّوح يعني: الراحة والفَرَج والسُّرور والفَرَح.
بل يسخر الله مَن يدعو لك ما دمت جالساً في المسجد؛ فعَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا يَزَالُ العَبْدُ في صَلَاةٍ ما كانَ في مُصَلَّاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَتَقُولُ المَلَائِكَةُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ له، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ"، حتَّى يَنْصَرِفَ، أَوْ يُحْدِثَ". قال أبو رافع لأبي هريرة: ما يُحْدِثَ؟ قالَ أبو هريرة: يَفْسُو، أَوْ يَضْرِطُ[7].


أما إن قصدها بنيَّة قراءة القرآن وتعلم معانيه وفهم أحكامه فهنيئاً له؛ له السكينة التي تشرح صدره والرحمة التي ترفع درجته وتغفر ذنبه، ويباهي الله بهم الملائكة، قال المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ"[8].
قال القاري: "أي الملأ الأعلى والطبقة الأولى من الملائكة، وذكره سبحانه للمباهاة بهم، يقول: انظروا إلى عبيدي يذكروني ويقرؤون كتابي"[9].
فأُمَُوا -معشرَ البائسين- بيوتَ رب العالمين، بددوا بُئسكم، شتتوا حزنكم، اكرعوا من معين الراحة والسرور، املؤوا رصيد الآخرة بالحسنات، اغسلوا صحيفة السيئات!





[1] الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، هم «كعب، وهلال، ومرارة»، وقصتهم طويلة، انظر: صحيح البخاري (4418) وصحيح مسلم (2769).
[2] أخرجه مسلم (671).
[3] أما إغلاقها في غير وقت الصلاة والتدريس لغرض مقبول عقلا وشرعا كالحفاظ على أجهزتها من السرقة فلا حرج فيه، كما قال الإمام النووي ـ رحمه الله: قال الصيمري وغيره من أصحابنا: لا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة لصيانته أو لحفظ آلاته هكذا قالوه، وهذا إذا خيف امتهانها، وضياع ما فيها، ولم يدع إلى فتحها حاجة، فأما إذا لم يخف من فتحها مفسدة ولا انتهاك حرمتها، وكان في فتحها رفق بالناس فالسنة فتحها كما لم يغلق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه ولا بعده. وقال المرغيناني ـ رحمه الله ـ في الهداية: ويكره أن يغلق باب المسجد، لأنه يشبه المنع من الصلاة، وقيل لا بأس به إذا خيف على متاع المسجد في غير أوان الصلاة.
[4] أخرها البزار وغيره، واختلف في تصحيحها.
[5] أخرجه البخاري (660) ومسلم (1031)
[6] أخرجه القضاعي في ((مسند الشهاب)) (72) مختصراً، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (10657)، وحسنه الألباني لغره في صحيح الترغيب 330
[7] أخرجه مسلم 649
[8] أخرجه مسلم (2699)
[9] مرقاة المفاتيح 1/ 288

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق