حديث: "من عشق فعف، فمات، فهو شهيد"
هذا الحديث مما يتادوله العشاق في نواديهم ومجالسهم، فيبررون فيه العشق والغرام، ليس كذلك فقط، بل جعلوا العاشق في منازل الشهداء، فهذا الأمر -إن صح الحديث- يُصيّر العشق عبادة يُتسابق إليها حتى تُحصَّل هذه الكرامة، فمن لم يعشق فقد فرَّط في سبب من أسباب الشهادة!!
ولا شك أن هذا الكلام لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشبه كلامه، ولا هديه، وهو الذي أمر بسد الذرائع في هذا الباب كغض البصر وحفظ الفرج، وعدم الدخول على النساء ... إلخ.
وهذا الحديث أخرجه الحاكم في
"تاريخه"[1]،
وابن الجوزي في "العلل المتناهية"[2]،
من حديث: سويد بن سعيد، نا علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن
عباس به مرفوعاً.
قلت: سويد بن سعيد
متكلم فيه؛ قال أبو حاتم الرازي: "كان صدوقا، وكان يدلس يكثر ذاك -يعني
التدليس-"[3].
وهو مع تدليسه عَمِي وصار
يُلقَّن فيتلقن؛ ضعفه البخاري فقال: "فيه نظر، كان عمي فلُقِّنَ ما ليس من
حديثه"[4]،
وكذا قال الدارقطني.
حتى إن الحاكم لما
رواه في تاريخه قال: "يقال: إن يحيى بن معين لما ذُكر له هذا الحديث قال: لو
كان لي فرس ورمح غزوت سويداً"[5].
قال ابن حجر: وأنكر
الأئمة على سويد هذا الحديث، حتى وإن كان مسلمٌ أخرج له في صحيحه فقد اعتذر مسلمٌ
عن ذلك، وقال إنه لم يأخذ عنه إلا ما كان عاليا وتوبع عليه، ولأجل هذا أعرض عن مثل
هذا الحديث[6].
قال ابن القيم: والصواب
في الحديث أنه من كلام ابن عبّاس رضي الله عنهما موقوفًا عليه، فغلِط سويد في رفعه،
ولا يشبه هذا كلام النبوة، نعم.. ابن عبّاس غير مستنكَر ذلك عنه[7].
ثم شكك في صحة الموقوف
أيضاً، فقال: "وفي صحَّته موقوفًا على ابن عبَّاسٍ نظرٌ"[8].
وله متابعة كما عند الخرائطي
في "اعتلال القلوب"[9]،
قال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن عيسى من ولد عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا الزبير بن
بكار، عن عبد الله بن عبد الملك الماجشون، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس به مرفوعاً.
قال أحمد بن حنبل:
يعقوب ليس بشيء.
وحسّن ابن الملقن هذه
المتابعة[10]،
وصححها السخاوي[11]، إلا
أنها رواية مُعلة؛ قال ابن حجر: "وهذه الطريق غلط فيها بعض الرواة؛ فأدخل
إسناداً في إسناد"[12].
أما ابن القيم فقال:
"وأمّا حديث ابن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا؛ فكذِبٌ على ابن الماجشون، فإنّه لم يحدث بهذا، ولا
حدّث به عنه الزبير بن بكّار، وإنما هذا من تركيب بعض الوضّاعين، ويا سبحان الله!
كيف يحتمل هذا الإسناد مثل هذا المتن؟! فقبّح الله الوضّاعين!"[13].
وأخرجه ابن الجوزي في
"ذم الهوى"[14]،
من حديث: من حديث محمد بن جعفر بن سهل، حدثنا يعقوب بن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن
مجاهد، عن ابن عباس به مرفوعا.
وهذا إسناد معضل، قال
ابن القيم -رحمه الله-: "وهذا غلط قبيح، فإنّ محمَّد بن جعفر [بن سهل] هذا هو:
الخرائطيّ، ووفاته سنة سبع وعشرين وثلاث مائة، فمحال أن يدرك شيخُه يعقوبُ ابنَ
أبي نَجيح، لا سيّما وقد رواه في كتاب "الاعتلال" عن يعقوبَ هذا، عن
الزبير، عن عبد الملك، عن عبد العزيز، عن ابن أبي نجيح، والخرائطي هذا مشهور
بالضعف في الرواية، ذكره أبو الفرج في كتاب الضعفاء، وكلام حفاظ الإِسلام في إنكار
هذا الحديث هو الميزان"[15].
قلت: وهو الصواب فإن ابن الجوزي بيَّنه ونَسَبَه في "العلل المتناهية" فقال: "محمد بن جعفر الخرائطي قال نا يعقوب بن عيسى ..." بالإسناد السابق[16].
فالحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً لا معنى ولا سنداً، فهو حديث: "ضعيف جداً".
[1] تخريج أحاديث الإحياء = المغني عن حمل الأسفار (ص992).
[2] العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 285).
[3] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 240)
[4] الجامع في الجرح والتعديل (1/ 359).
[5] المقاصد الحسنة (ص658).
[6] التلخيص الحبير (2/ 325 ط العلمية).
[7] الداء والدواء (ص569)، (ص572).
[8] زاد المعاد ط عطاءات العلم (4/ 401).
[9] اعتلال القلوب - الخرائطي (1/ 59): 106.
[10] البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير (5/
372).
[11] المقاصد الحسنة (ص658).
[12] التلخيص الحبير (2/ 325 ط العلمية).
[13] الداء والدواء (ص570).
[14] ذم الهوى (ص326).
[15] الداء والدواء (ص571).
[16] العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 285).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق