الاثنين، 13 يناير 2020

الوَرَقُ والوَرَّاقون



الوَرَقُ والوَرَّاقون



يُعدُّ الكتاب من أهم وسائل المعرفة على الإطلاق، وركيزة حضاريَّة مهمة تساهم في بلورة شخصيّة الفرد والمجتمع على حد سواء، فالكتاب عنوان لشتى أنواع المعارف، وعليه تتوقف سعادة الفرد، ورقي المجتمعات، وهو عنوان لإبداع المبدعين وتنافسهم في شتى العلوم والمعارف لذلك فإنّ له فوائد عظيمة، وسبل متنوّعة للاهتمام به[1].
واختلف في نشأة الكتابة، متى كانت بدايتها، ومن أول من اخترعها، فالبعض يرى أن الكتابة توقيف من الله تعالى، أنزلت على آدم - عليه السلام - في إحدى وعشرين صحيفة.
وقيل: إنّ آدم - عليه السلام - هو من وضعها، كتبها في طين وطبخه، قبل أن يموت بثلاثمائة سنة، ولما كان غرق الطوفان، أصاب كلّ قوم كتابهم.
والحقيقة أنّ المعرفة الحقيقة لأصل الكتابة، وكيف كانت نشأتها، ليس بالأمر السهل، لغموض تاريخ تلك الفترات، ولكنّ المطلع على النقوش والآثار، التي خلّفتها الحضارات القديمة، يدركُ أن عملية الكتابة لم تكن توقيفية من الله تعالى، ولم تكن اختراعًا فجائيًّا من وضع أحد بعينه.
وإذا كان الاتفاق على أن الكتابة هي من صنع الإنسان، لا توقيفية من الله تعالى، ولا من وضع آدم - عليه السلام - فهذا يعني أن الكتابة لم تكن بالشكل المتعارف عليه الآن، ولكنّها مرّت بعدة مراحل طويلة عبر التاريخ، وذلك تبعًا لتطور حياة الإنسان، وبيئاته المختلفة، حتى وصلت إلى هي ما عليه في هذا العصر[2].
وأول من كتب بالعربية من ولد إسماعيل هو: نزار بن معد بن عدنان[3]، وقيل غيره.
وتُشير بعض الروايات إلى أن الكتابة العربية اشتقت من الخط الحميري (المسند)، الذي انتقل إلى العراق في عهد المناذرة، حيث تعلمه أهل الحيرة، ثم تعلمه أهل الأنبار، ثم انتقل إلى الحجاز، عن طريق القوافل التجارية، وقد أخرج الحافظ أبو طاهر السلفي في "الطيوريات" بسنده عن الشعبي ما يؤيد ذلك فقال: «أول العرب الذي كتب بالعربية حرب بن أمية، تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار».
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتابه "المصاحف": «حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال: سَألْنَا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة قالوا: تعلمنا من أهل الحيرة سألنا أهل الحيرة: من أين تعلمتم الكتابة قالوا: من أهل الأنبار».
ولعلّ أقرب الآراء إلى الصّواب، هو الرأي الذي أجمع عليه العلماء والمستشرقون والذي يقول: إنّ الخطّ العربي مشتق من الخطّ النبطي، وأن العرب أخذوا الخط العربي عن أبناء عمومتهم الأنباط قبل الإسلام، والأنباط هم قبائل عربية نزحت من الجزيرة العربية وسكنوا في المناطق الآرامية في فلسطين وجنوب بلاد الشام والأردن، ويؤيد هذا الرأي الدكتور جواد علي؛ حيث يقول: إن أغلب حروف وأشكال الخط العربي مشابهة لحروف الخطّ النبطي المتأخر وأشكاله، كما أيده في ذلك الدكتور إبراهيم جمعة، ولعله أكثر رأي يركن إلى دليل ماديّ؛ حيث يستند العلماء الذين قالوا به، إلى النقوش النبطية التي كشفت الصلة بين الخط العربي والنبطي[4].
مع ظهور الإسلام واختيار الله تعالى اللغة العربية لكتابه، زاد انتشار اللغة العربية، وبتوجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد شجع الرسول -عليه الصلاة والسلام- على تعلم الكتابة بطرق مختلفة، فمن ذلك أنه جعل فداء بعض أسرى قريش في معركة بدر ممن تعلموا الكتابة أن يعلموها عشرة من صبيان المدينة.
وزاد انتشار العربية كذلك مع الفتوحات الإسلامية وصارت هي اللغة المعتمدة في كثير من بقاع المعمورة، لنشر القرآن والسُنة وتعليم الناس، ثم أخذت الكتابة تستخدم استخداما واسعا لا في كتابة القرآن الكريم فحسب، بل في كتابة كثير من شئون المسلمين.
وكان لا بد حينئذ من مواد يتحصل بها المطلوب من أقلام وأوراق، فقد كتب الجاهليون على الجلد، وكانوا يسمّونه بالرقّ والأديم والقضيم، وهناك اختلاف بسيط بينهم، فالرقّ جلد رقيق، والأديم جلد احمر والقضيم جلدٌ أبيض، وكتبوا على القماش، حريرًا كان أم قطنًا، وعلى سعف النخيل، وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتبون على العظام والرقاع وجريد النخل ورقيق الحجارة، واستخدم العرب ورق البردي المصري، ويرجع عهدهم به بعد سنة عشرين للهجرة[5].
وورق البردي حظِيَ بشهرةٍ كبيرة في العصر العبَّاسي، وكان أكثر تلك الأدوات استعمالًا، أما الورق، فقد ظهَر كمنافس جِدِّي للبردي من عام 133 ﻫـ؛ أي: بعد فتح المسلمين مدينة فرغانة[6]، حيث عادوا بعشرين ألف أسيرٍ، بينهم بعض الصِّينيين الذين يتقنون صناعةَ الورَق، وهؤلاء نقلوا هذه الصِّناعة إلى العرب، ومنذ ذلك الحين أَسهم ظهور الورَق مساهمة فعَّالة في ازدِهار حركة التأليفِ والكتابة؛ لسهولة تداول المخطوط الورَقي بين النَّاس، بل ساهَم في حركة التَّرجمة الضَّخمة التي قام بها العربُ والمسلمون لنقلِ مختلف العلوم والفنون والآداب من الحضارات والثَّقافات القديمة - كالفارسيَّة، والهندية، واليونانية - إلى اللغة العربية، من المعلوم أنَّ أوربا قد عرفَت صناعة الورَق عن طريق العرب، ولولاهم لَما عرفَت أوربا عصرًا مثل ذلك الذي سُمِّي في تاريخنا بعصر النَّهضة[7].
فاشتهرت حينئذ مهنة الوراقة وهي حرفة صناعة الورَق ونسْخ الكتب، والاتِّجار بها، وقد وضح ابن خلدون مكونات مهنة هذه الصِّناعة بقوله: "إنَّها معاناة الكتب بالاستِنساخ، والتصحيح، والتجليد، وسائر الأمور الكتابيَّة، والدَّواوين"[8].
تمتعت الوراقة بازدهار كبير في القرن الرابع الهجري، بسبب كثرة ما نُقل وانتُسخ فيه من الكتب والمؤلفات، إلى جانب جودة النسخ والتصحيح والعناية بهما في ذلك العصر، وبلغ عدد حوانيت الوراقين في بغداد في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) أكثر من مائة حانوت، بل إن أسواقًا كاملة ببغداد تخصصت في الوراقة، وتحولت دكاكين الوراقين إلى مراكز للثقافة وملتقيات للعلماء والأدباء وأهل المعرفة، وقد استعانت دور الكتب العامة أيضًا بالوراقين، بل لقد كان هؤلاء جزءًا مهمًا من هيكل تلك الدور التنظيمي والعلمي، كما كان الحال في بيت الحكمة[9] ببغداد.
وقد أُطلق هذا اللقب -الوراق- منذ ذلك الحين على عدد من الشخصيات العلمية والأدبية المشهورة، ومن أشهر هؤلاء:
-أبو الحسن علي بن المغيرة الأثرم (توفي 232 هـ)
-علان الشعوبي
-أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور (توفي 280 هـ)
-أبو زكريا يحيى بن عدي بن زكريا المنطقي (توفي 364 هـ)
-أبو الفرج محمد بن إسحق النديم (توفي 385)، وهو صاحب الفهرست.
-أبو الحسن علي بن أحمد الدريدي.
* * *
واستمرت مهنة الوراقة إلى أن كان ظهور الطباعة الحجرية وهي وسيلة للطباعة باستخدام الحجر (الحجر الجيري معدني) أو لوحة معدنية مع سطح أملس تماما، واخترعت عام 1796 في ولاية بافاريا الألمانية على يد الكاتب "الويس سانفيلدر" باعتبارها وسيلة من والسائل منخفضة التكلفة لنشر الأعمال المسرحية أو لطباعة النص أو العمل الفني على الورق أو غيرها من المواد الأخرى المناسبة.
ثم جاءت المطبعة الحديثة سنة 1436 هـ، أو 1937 م، على يد الألماني "يوهان جوتنبرج" -الذي يعتبر مخترع الطباعة الحديثة- إيذانا ببدء عصر جديد، وانتشار العلم، والتقاء الحضارات، وتبادل الثقافات.
وكانت الآستانة عاصمة الخلافة العثمانية، أسبق مدن الشرق إلى الطباعة، وتردد القوم في طبع كتب الحكمة واللغة والتاريخ والطب والفلك، التي لم يجرؤ أحد على طبعها إلا بعد صدور فتوى من شيخ الإسلام عبد الله أفندي سنة ۱۷۱۹ م، بجواز ذلك، فيما عدا الكتب الدينية التي استصدرت فتوى أخرى بعدها؛ لإجازة طبعها، وتعددت المطابع في الآستانة، فكان أشهرها مطبعة الجوائب، لأحمد فارس الشدياق، وقد نشر في هذه المطبعة، إلى جانب صحيفة الجوائب طائفة صالحة من الكتب العربية[10].





[1] إقرأ المزيد على موضوع.كوم: https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%88%D8%B6%D9%88%D8%B9_%D8%B9%D9%86_%D8%A3%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8
[2] رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/63331/#ixzz6AnnERDzo
[3] قاله برهان الدين الحلبي في كتابه السيرة الحلبية.
[4] رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/63331/#ixzz6AnoPloqY
[5] رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/63331/#ixzz6AnpU9Tdi
[6] الواقعة في شرق أوزبكستان.
[7] رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/97786/#ixzz6AnqP1PAQ
[8] رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/97786/#ixzz6Ansc4QYK
[9] بيت الحكمة أو خزائن الحكمة أول دار علمية أقيم في عمر الحضارة الإسلامية، أُسِّسَ في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، واتخذ من بغداد مقرًا له، كان أبو جعفر المنصور مهتمًا بعلوم الحكمة، فترجمت له كتب في الطب والنجوم والهندسة والآداب، فخصص لها خزانات في قصره لحفظها حتى ضاق قصره عنها، أمر بإخراج الكتب والمخطوطات التي كانت تحفظ في جدران قصر الخلافة، لتكون مكتبة عامة مفتوحة أمام الدارسين والعلماء وطلاب العلم وأسماها بيت الحكمة، وأضاف إليها ما اجتمع عنده من الكتب المترجمة والمؤلفة، فتوسعت خزانة الكتب وأصبحت أقسام لكل منها من يقوم بالإشراف عليها.
[10] مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، مع محاضرة عن التصحيف والتحريف للطناحي ص28

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق