الأحد، 26 يناير 2020

شرح البيقونية (4) الحديث الصحيح 2


مسألة: هل كُتِبَت السُّنَّة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
وردت أدلة متعارضة بعضها تدل على إباحة الكتابة وبعضها تنهى عنها، واختلف السلف على أساسها في كتابة الحديث، فكرهها طائفة وأباحها طائفة ثم أجمعوا على جوازها بعد ذلك[1].
أولا: أدلة الإباحة -وهي كثيرة- منها:
1 - حديث أبي شاه اليمني في التماسه من رسول الله أن يكتب له شيئا سمعه من خطبته عام فتح مكة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اكتبوا لأبي شاه" متفق عليه[2].
2 - حديث أبي هريرة: "ما من الصحابة أحد أكثر حديثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه يكتب وأنا لا أكتب"[3].
3 - حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده"[4].
4 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق"[5].
ثانيا: أدلة المنع: حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"[6].
وقد أعل الحديث أبو عبد الله البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد، وقيل: لا يصح في النهي شيء غير هذا الحديث.
وعلى فرض صحة الأحاديث المتعارضة فيكون الجمع بين النصوص المتعارضة: أنه عليه الصلاة والسلام "أذِن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه من وثق بحفظه، مخافة الاتكال على الكتاب، أو نهى عن كتابة ذلك عنه حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن العظيم وأذن في كتابته حين أمن من ذلك ... ثم إنه زال ذلك الخلاف وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة" اهـ. من كلام ابن الصلاح.
وقال السيوطي: " وقيل: المراد النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة ; لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها، فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه. وقيل: النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه، والأذن في غيره"
وقال الشيخ أحمد شاكر: الصحيح أن النهي منسوخ.

مسألة: متى تتبع العلماء حديثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودوَّنوه في الكتب؟
هناك فرق بين معنى التدوين ومعنى التصنيف، إذ بمعرفة ذلك يزول كثير من اللبس:
فالتدوين: هو تقييد المتفرق المشتت.
أما التصنيف: فهو أدق من التدوين؛ إذ هو ترتيب ما دُوِّنَ في فصول محدودة وأبواب مميزة.
فالتدوين -وليس التصنيف- قد بدأ بداياته الأولى في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم في زمن الصحابة ثم في زمن التابعين بمختلف طبقاتهم.
إلا أن أكثر السُّنَّة كانت تُتَداول حفظاً بين العلماء والمحدثين من الصحابة والتابعين لسيلان أذهانهم وسعة حفظهم.
ثم في أواخر القرن الأول الهجري كتب الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت101هـ) إلى أبي بكر بن حزم (ت120هـ): "انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولْتُفْشُوا العلمَ، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً".
وعن ابن شهاب الزهري (ت124هـ) قال: "أمَرَنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرضٍ له عليها سلطان دفتراً".
فهذا التدوين يعتبر التدوين الرسمي بأمر خليفة المسلمين.
وأول من جمع الحديث والآثار -في القرن الثاني الهجري-: ابن جريج بمكة، وابن إسحاق أو مالك بالمدينة، والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالري، وابن المبارك بخراسان.
ثم جاء عصر ازدهار العلوم الاسلامية عامة وعلوم السُّنَّة النبوية خاصة -وهو القرن الثالث الهجري-، ويُعَد هذا القرن من أزهى عصور السُّنَّة النبوية، إذ نشطت فيه الرحلة لطلب العلم ونشط فيه التأليف في علم الرجال، وتُوسِّع في تدوين الحديث، فظهرت كتب المسانيد والكتب الستة - الصحاح والسنن - التي اعتمدتها الأمَّة واعتبرتها دواوين الإسلام.

مسألة: أول مَن جمع الحديث الصحيح الـمُجرَّد -الصحيح فقط-:
أول مصنف في الصحيح المجرد هو الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، والسبب في ذلك ما رواه عنه إبراهيم بن معقل النسفي قال: كنا عند إسحاق بن راهويه شيخ البخاري فقال: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح.
وعنه أيضا قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت بعض المعبرين فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح. قال: وألفته في بضع عشرة سنة.
ثم تلا البخاري في تصنيف الصحيح: مسلم بن الحجاج تلميذه، وهما أصح الكتب بعد القرآن العزيز، وكتاب البخاري أصح من كتاب مسلم؛ لأنه أشد اتصالا وأتقن رجالا.
ولم يستوعبا الصحيح في كتابيهما، فقد قال البخاري: "ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح خشية أن يطول الكتاب"، وقال مسلم: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه"[7].

مسألة: مظانُّ معرفة الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين:
قال السيوطي: "يؤخذ الصحيح الزائد على ما في الصحيحين من سائر الكتب المعتمدة المشتهرة لأئمة الحديث، ثم هي نوعان:
أحدهما: ما لم يلتزم فيه مُصَنِّفُه الصحيح، ولا شَرَطَ الاقتصار عليه، فلا يكفي مجرد وجوده فيه، بل لابد من نَصِّهِ على صحته في كتاب كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، ونحوها.
قال العراقي: وكذا لو نَصَّ على صحته أحدٌ منهم في غير مصنفاتهم ونُقل ذلك عنه بإسناد صحيح، كما في سؤالات أحمد بن حنبل، وسؤالات ابن معين وغيرهما.
النوع الثاني: ما التزم مؤلِّفُهُ فيه الصحيح، وشَرَطَ الاقتصار عليه، وهذا يكفي مجرد كونه موجودًا فيه ... ككتاب ابن خزيمة، والكتب المخرجة على الصحيح ككتاب أبي عوانة، والإسماعيلي، والبرقاني، وكذا صحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم على ما يحرر فيه، والسنن الصحاح لسعيد بن السكن"[8].
والصواب أنه لا بد من تتبع تلك الأحاديث ويحكم عليها بما يليق بحالها من الصحة أو الـحُسْن أو الضعف، ولا يُكتفى الاعتماد على ما فيها بإطلاق كما في الصحيحين؛ لأنه قد وُجدت في تلك المصنفات التي اشترط أصحابها الصحة ما هو ضعيف بل موضوع.
قال الحافظ ابن كثير: " وكتب أخر التزم أصحابها صحتها، كابن خزيمة، وابن حبان البستي، وهما خير من المستدرك بكثير، وأنظف أسانيد ومتوناً"[9].
وقال السخاوي: "وعلى كل حال فلا بد من النظر للتمييز، وكم في كتاب ابن خزيمة أيضا من حديث محكوم منه بصحته، وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن ... وتقع أيضا في صحيح أبي عوانة الذي عمله مستخرجا على مسلم أحاديث كثيرة زائدة على أصله، وفيها الصحيح والحسن، بل والضعيف أيضا، فينبغي التحرز في الحكم عليها أيضا.
وأما ما يقع فيه وفي غيره من المستخرجات على الصحيحين من زيادة في أحاديثهما، أو تتمة لمحذوف، أو نحو ذلك - فهي صحيحة، لكن مع وجود الصفات المشترطة في الصحيح، فيمن بين صاحب المستخرج والراوي، الذي اجتمعا فيه "[10].
وقد علَّق الشيخ الألباني -رحمه الله- تعليقات مختصرة على صحيح ابن خزيمة -المطبوع منه- وصحيح ابن حبان، واتضح أن في بعضها ضعفاً، وأكثرها صحيح وحسن.

مسألة: أقسام الحديث الصحيح:
الصحيح أقسام: أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم مسلم، ثم على شرطهما ولم يخرجه واحد منهما، ثم على شرط البخاري ولم يخرّجه، ثم مسلم ولم يخرّجه، ثم صحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما[11].
وفائدة هذا التقسيم تظهر عند التعارض والترجيح، فيُقدم الأعلى على غيره.







[1] فممن كره الكتابة للتحريم: فمن الصحابة ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري، ومن التابعين الشعبي والنخعي.
وممن رويت عنه الإباحة: عمر وعلي وابنه الحسن وابن عمرو وأنس وجابر وابن عباس وابن عمر أيضا، والحسن وعطاء وسعيد ابن جبير وعمر بن عبد العزيز، ومن بعد هؤلاء ممن لا يعد كثرة.
وفي المسألة مذهب ثالث حكاه الرامهرمزي وهو: الكتابة والمحو بعد الحفظ، حكاه عن عبدا لرحمن بن سلمة الجمحي، ومحمد بن سيرين، وعاصم بن ضمرة، وهشام بن حسان، وخالد الحذاء، وغيرهم.
[2] أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب: كتابة العلم، حديث: 112 بلفظ: "اكتبوا لأبي فلان"، وأخرجه في مواضع أخرى: (2434، 6880) بلفظ: "اكتبوا لأبي شاه"، وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، حديث: (3305، 3306).
[3] أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب: كتابة العلم، حديث: 113.
[4] أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب: كتابة العلم، حديث: 114.
[5] أحمد في مسنده (6510) وأخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، حديث: (3646) وصححه الألباني.
[6] أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، حديث: 7510.
[7] يريد ما وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم، وقال البلقيني: قيل: أراد مسلم إجماع أربعة: أحمد بن حنبل، وابن معين وعثمان بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور الخراساني.
[8] البحر الذي زخر 2/770
[9] اختصار علوم الحديث ص27
[10] فتح المغيث 1/56
[11] قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقا، كأن يتفقا على إخراج حديث غريب، ويخرج مسلم أو غيره حديثا مشهورا، أو مما وصفت ترجمته بكونها أصح الأسانيد، ولا يقدح ذلك فيما تقدم؛ لأن ذلك باعتبار الإجمال.
قال الزركشي: ومن هنا يعلم أن ترجيح كتاب البخاري على مسلم إنما المراد به ترجيح الجملة، لا كل فرد من أحاديثه على كل فرد من أحاديث الآخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق