الأربعاء، 19 مارس 2025

شرح (سر على مهلك) 2

إن تذكرْتَ أويقاتِ الصِّبا

أو تُقِسْ ريحَ الدّبُور بالصَّبا

فاترك القول لِوَقْتٍ ذهبا

(ودَع الذكرى لأيام الصِّبا)

(فلأيام الصبا نَجمٌ أفلْ)

قوله: ‌أُوَيْقات: تصغير جمع القلة: أوقات، و‌الصِّبَا: الصِغَر وحداثة السن.

وقوله: (ريحَ الدّبُور بالصَّبا) ريح الدبور: هي ريحٌ تهب من المغرب، وتقابل القَبُول وَهِي ريح ‌الصَّبَا التي تهب من المشرق.

والمعنى: إن خطرت ببالك -في أيام تقدمك بالعمر- ذكرياتُ أيام صِباك وما كان فيها من لهو وغفلة، فلا تلتفت إليها، فحالك الآن يختلف عن حالك أيام الطيش والشهوة الجامحة والغفلة وقلة التجربة، فأنت الآن قد سكنت شهوتك، وازدادت حكمتك، وكثرت تجاربك، فلا تكن كمن يقيس حالتين مختلفتين، كمن يقيس ريح الدبور، بريح الصبا.

قال الإلبيري:

‌وَيَقْبُحُ ‌بَالْفَتَى ‌فِعْلُ التَّصَابِي

وَأَقْبَحُ منه شَيْخُ قَدْ تَفَتَّى

قال الفيّوميّ -رحمه الله-: "الريح أربع: الشمال، وتأتي من ناحية الشام، وهي حارّةٌ في الصيف، بارحٌ[1]، والجنوب تقابلها، وهي الريح اليمانية، والثالثة: الصَّبا، وتأتي من مطلع الشمس، وهي القَبُول أيضاً، والرابعة: الدَّبُور، وتأتي من ناحية المغرب"[2].

ومن صفات ريح الصَّبا: أنها تأتي من ناحية الشرق وتتجه غرباً، وهي رياح معتدلة، تهب في وقت السَّحَر وأول النهار، وعندما تهب أول النهار تكون مائلة إلى البرودة، وقد أكثر الشعراء من ذكرها في أشعارهم.

ومن صفات ريح الدبور -وهي الغربية-: وهي الريح العقيم لأنها لا تلقح الشجر، وتهدم البنيان، وتقلع الأشجار، وهي مذمومة في القرآن العظيم، وهي التي تقابل الصبا، سميت بذلك لأنها تأتي من دبر الكعبة.

وقد نصر الله تعالى نبيه والمؤمنين بريح الصبا في غزوة الأحزاب، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9]، قال مجاهد بن جبر: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا} قال: "يعني: ريح الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم على أفواهها، ونزعت فَساطِيطَهم حتى أظعَنتْهم"[3].

وفي الحديث: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَاد بِالدَّبُورِ"، متفق عليه.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ومن لطيف المناسبة كون القَبُول نَصَرت أهل القَبول، وكون الدَّبُور أهلكت أهل الإدبار".

قال: (فاترك القول لِوَقْتٍ ذهبا ... ودَع الذكرى لأيام الصِّبا .. فلأيام الصبا نَجمٌ أفلْ) أي: ينبغي لك عدمُ التذكر لأيام الصبا التي وقعت فيها الذنوب والخطايا، وقد مرَّت كأنَّها طيف خيالٍ، أو نجمٌ أفل؛ أي: غاب؛ لأنه ليس في ذِكْر تلك الأيام إلا التفاخرُ بالمعصية، وقد قيل: إنَّ التحدُّثَ بالمعصيةِ والسرورَ بها يزيدُ في الإثم، كما أنَّ التحدُّثَ بالنعمة والسرورَ بها يزيدُ في الأجر؛ قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم : "‌كُلُّ ‌أُمَّتِي ‌مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ" متفق عليه[4].

في السُنن بإسناد حسن من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهما: قال: كان رجلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أَبي مرثَدٍ [الغنوي]، وكان رجلاً يَحمل الأُسَراءَ من مكة، حتى يأتِيَ بهم المدينة، قال: وكانت امرأَةٌ بَغِيٌّ بمكة، يقال لها: ‌عَنَاقُ، وكانت صَديقَةً له، وإنه كان وَعَدَ رجلاً من أُسَارَى مكةَ يحمله.

قال مرثد: فجئتُ حتى انتهيتُ إلى ظِلِّ حائطٍ من حَوائط مكة، في ليلةٍ مُقْمِرَةٍ، قال: فجاءت ‌عَناقُ، فأبْصَرَتْ سوادَ ظِلِّي بجنْبِ الحائطِ، فلما انْتَهتْ إليَّ عَرَفَتْني، فقالت: مَرْثَدُ؟! فقلت: مرثد، فقالت: مَرْحباً وأهلاً، هَلُمَّ فبِتْ عندنا، قال: قلتُ: يا ‌عناق: حَرَّمَ الله ‌الزنا، قالت: يا أهلَ الخِيام، هذا الرجلُ يحمل أُسْراءكُمْ!

قال: فَتبِعَني ثمانيةٌ، وسَلَكْتُ الْخَنْدَمَةَ[5]، فانتهيتُ إلى غارٍ، أَو كَهْفٍ، فدخلتُ، فجاءوا حتَّى قامُوا على رأْسِي، فَبَالُوا، فَظلَّ بَوْلُهُمْ على رأسي، وعَمَّاهُم الله عَنِّي، قال: ثم رجعوا، ورجعتُ إلى صاحِبي، فَحمَلْتُهُ وكانَ رجلاً ثقيلاً حتى انتهيتُ إلى الإذْخِرِ، ففكَكْتُ عنه أَكْبُلَهُ، فجعلتُ أَحملُه، ويُعْيِيني[6] حتى قَدِمتُ المدينةَ، فأتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أأَنْكِحُ ‌عناقَ؟ فأمْسَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلم يَرُدَّ شيئاً، حتى نزلت {الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيةً أَو مُشْركَةً والزانيةُ لا ينكحُها إِلّا زانٍ أو مُشْركٌ} [النور: 3] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مَرْثَدُ {الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيةً أَو مُشْركَة والزانيةُ لا ينكحُها إِلّا زانٍ أو مُشْركٌ} فلا تَنْكِحْها.

فانظر كيف حاولت عناق أن تذكر مرثد بأيام الجاهلية، وكيف كفَّ مرثد عن طلبها وقال: "حرم الله الزنا"، وفي الحديث: "‌سَبْعَةٌ ‌يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ... وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ..." متفق عليه.



[1] أي الشمالية: حاملة للتراب.

[2] "المصباح المنير" 1/ 244.

[3] موسوعة التفسير المأثور (17/ 672).

[4] فتح الرحيم الرحمن ص53.

[5] جبل بمكة، أي: سلك طريق الخندمة.

[6] من الإعياء، وهو الكلال والتعب. 

هناك تعليق واحد:

  1. ماشاءالله تبارك الرحمن نفع الله بك وبعلمك وزادك علماً و عملاً

    ردحذف