الأحد، 19 يناير 2025

الطُّوَيـْجِن

الطُّوَيـْجِن


كم من عَلَمٍ من أعلام أمتنا غدا طي النسيان بين آكام الأسفار، أو في المخطوطات المتوارية عن الأنظار، ربما دُسَّ خبرُهم جهلاً .. أو عمدا، حتى لا يُتَّخَذوا فخراً ومجدا، رجالٌ لا تزيد معرفةِ خبرِهم القارئَ إلا همة، ولا السماع بسيرهم إلا عزة.

فهل طرق سمعَك في يومٍ من الأيام اسمُ: "الطويجن"؟!

أُخبرك أني عرفته بكل بساطة .. في ثنايا كتاب: "الإحاطة في أخبار غرناطة"، إن شئتَ أن ترى الطويجن أديباً .. رأيته، أو رحَّالةً .. وجدته، أو مهندساً .. صادفته .. فمن هو الطويجن هذا ؟!

هو: أبو إسحاق ‌‌إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الساحلي، المشهور بالطّويجن، الأديب، جوّاب الآفاق، من أهل غرناطة الغرّاء، كان فاضلا في عدّة فنون، ويكتب بالخطّ الموزون، مع كرم نفس، ونظم ونثر وحسن درس.

رحل بعد أن اشتهر فضله، وذاع أوجه، فشرّق وغرَّب، وجال في البلاد، فدخل قلوب الملوك والعباد، "شاهد البرابي والأهرام، ورمى بعزمته الشآم، فاحتلّ ثغوره المحوطة، ودخل دمشق، وتوجّه نحو الغوطة، ثم عاجلها بالعراق، فحيّا بالسّلام مدينة السّلام، وأورد بالرّافدين رواحله، ورأى اليمن وسواحله، ثم عدل إلى الحقيقة عن المجاز، وتوجّه إلى شأنه الحجاز، فاستلم الرّكن والحجر، وزار القبر الكريم لـمّا صَدَر، وتعرّف بمجتمع الوفود بملك السُّود، فغمره بإرفاده، وصحبه إلى بلاده".

تعرف على ملك مالي الصالح الشاب "منسا موسى" في الحج، فصاحبه إلى بلاد الزنج، فكانت له عند الملك مكانة عظيمة، فاستوطن بلاده مدة طويلة، بالِغاً فيها أقصى مبالغ الـمَكَنَة، والحظوة، والشّهرة، والجلالة، واقتنى مالاً دثارا، ومجداً سيّارا.

استعان الملك "منسا موسى" بهذا المهندس الأندلسي في بناء المساجد والقصور، والمساكن والدور، وإلى الطويجن يرجع الفضل في إدخال فن البناء بالآجر في غربي السودان، حتى غدت دُرة البلدان، وبنى في "تمبكتو" مسجدًا عظيما، وقصرا للملك كقصور الأندلس تصميما.

جامع تمبكتو اليوم بعد التعديلات التي دخلت عليه

وبعد هذا التجوال الشاق، حنَّ الطويجن إلى بلاد العشّاق، فكتب وقلمُه يسيل، بمشاعر قلبه العليل: " .. وحسبي أن أصِفَ ما أُعانيه من الشّوق، وما أجده من التَّوق، وأعلّل نفسي بلقائهم، وأتعلّل بالنّسيم الوارد من تلقائهم، وإنْ جَلاني الدهرُ عن وُرُودِ حَوْضِهم، وأقعدني الزمانُ عن اجتناءِ رَوْضِهم، فما ذهب ودادي، ولا تغيّر اعتقادي ..

بلادٌ بها نِيطَتْ عَلَيَّ تمائِمي        وأوَّلُ أرضٍ مَسَّ جِلْدي تُرابَـها

وكلما اقترب من بلاده أنشد قائلاً ..

                 وأَبْرَحُ ما يكونُ الشوقُ يوماً       إذا دَنَتِ الدّيارُ منَ الديارِ

فتاخمَ بلاد الأحبابِ بمراكش، فما راقت له وألفاها أرضَ معاطش، فطوى رحله عائداً إلى مالي؛ بلادِ الأماني، فاستقرّ بها على حاله من الجاه والشّهرة، حتى وافته المنيةُ قرب مسجده المزهو، في مدينة تمبكتو (747 هـ).

فرحم الله الطويجن؛ أبا إسحاق ‌‌إبراهيم بن محمد الغرناطي .. وأجزل له في الآخرة المعاطي ..

 

هناك 4 تعليقات:

  1. مشكور الشيخ نواف مناور على بحثك المضني لسبر أغوار الارشيفات بحثا عن كتب الفكر والدين لتنوير القراء .انت اسم على مسمى الله يزيدك نور على نور.استاذ عبد الدائم خاليفي من المغرب

    ردحذف
  2. أستعدني موروكم أستاذي ومعلمي الفاضل، وأدام عليكم نعمه وإحسانه

    ردحذف