الاثنين، 20 يناير 2025

طول العمر وحُسْنُ العمل

طول العمر وحُسْنُ العمل

ارتبط مفهوم عند بعض الناس أن الذي يكره الموت = غير مؤمن، أو على الأقل ضعيف الإيمان، وأن الذي يحب الحياة = يحب الشهوات والمعاصي، فهل هذا المفهوم صواب؟

لا شك أنه مفهوم خاطئ طبعاً، فكلنا يكره الموت، حتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الموت، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، أَحَبَّ ‌اللهُ ‌لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، كَرِهَ ‌اللهُ ‌لِقَاءَهُ"، فَأَكَبَّ الْقَوْمُ يَبْكُونَ، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكُمْ؟!" فَقَالُوا [الصحابة]: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِذَا حُضِرَ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ، أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، وَاللهُ لِلِقَائِهِ أَحَبُّ، {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ، يَكْرَهُ لِقَاءَ اللهِ، وَاللهُ لِلِقَائِهِ أَكْرَهُ"[1].

وفي حديث أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ ‌اللهُ ‌لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ ‌اللهُ ‌لِقَاءَهُ" قُلْنَا [الصحابة]: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ! قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ، جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللهِ، بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللهَ، فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ - أَوِ الْكَافِرَ - إِذَا حُضِرَ، جَاءَهُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ - أَوْ مَا يَلْقَى مِنَ الشَّرِّ - فَكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ"[2].

إذاً كراهية الموت ليس عيباً في المسلم ولا قدحاً في المؤمن، وفي المقابل: هل من ضير على المسلم أن يحب الحياة؟ الجواب فيه تفصيل:

1- إن كان يحب الحياة من أجل الاستكثار من المعاصي والآثام، فلا شك أنه قدح فيه.

2- وإن كان يحب الحياة من أجل التمتع بالمباحات، فهذا لا قدح ولا مدح.

3- أما إن كان يحب الحياة من أجل الاستزادة من الطاعات فهذا هو الموافق للشرع، الذي جاءت به النصوص.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِمَنْ طالَ عمرُهُ وحسُنَ عملُهُ"[3].

وفي حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيَّانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ"[4].

فأكمل الأحوال: أن يُحب المسلم طول الحياة حتى يستزيد من الأعمال الصالحة، ولا يضره كراهيته للموت ما دام حياً.

* * *

وحتى تتصور عظم فائدة البقاء على قيد الحياة في طاعة الله، أذكر لك حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أنَّ رَجُلَيْنِ من بَلِيٍّ قَدِما على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وكان إِسْلامُهُما جَمِيعًا، فكانَ أحدُهُما أَشَدَّ اجْتِهادًا مِنَ الآخَرِ، فَغَزَا المُجْتَهِدُ مِنْهُما فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بعدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ [وفاة طبيعية].

قال طلحةُ فَرأيْتُ في المنامِ بَيْنا أنا عندَ بابِ الجنةِ إذا أنا بِهما، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الجنةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنْهُما، ثُمَّ خرجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رجعَ إِلَيَّ فقال: ارْجِعْ فإنَّكَ لمْ يَأْنِ لكَ بَعْدُ.

فَأصبحَ طلحةُ يُحَدِّثُ بهِ الناسَ فَعَجِبُوا لِذلكَ، فَبَلَغَ ذلكَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وحَدَّثُوهُ الحَدِيثَ فقال: "من أَيِّ ذلكَ تَعْجَبُونَ؟!" فَقَالوا: يا رسولَ اللهِ هذا كان أَشَدَّ الرجلَيْنِ اجْتِهادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، ودخلَ هذا الآخِرُ الجنةَ قبلَهُ!

فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "أَليسَ قد مَكَثَ هذا بعدَهُ سَنَةً" قالوا: بلى، قال: "وأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصامَ وصلَّى كذا وكذا من سَجْدَةٍ في السَّنَةِ" قالوا: بلى، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "فما بينَهُما أَبْعَدُ مِمَّا بين السَّماءِ والأرضِ!"[5].

انظر كيف ارتفع هذا على صاحبه الشهيد، بسبب أن فسح الله له الأجل سنة واحدة.

بل قد يفوق المسلم غيره بعمل أسبوع واحد فقط!، فعن عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه قال: آخى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينَ رجُلينِ، فقُتِل أحدُهما [شهيداً]، ومات الآخَرُ بعدَه بجُمعةٍ أو نحوِها، فصَلَّيْنا عليه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما قُلتُم؟" فقلْنا: دعَوْنا له، وقلْنا: اللهمَّ اغفِرْ له، وأَلحِقْه بصاحِبِه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فأين صلاتُه بعدَ صلاتِه، وصومُه بعدَ صومِه وعملُه بعدَ عملِه؟ إنَّ بينَهما كما بينَ السماءِ والأرضِ!"[6].

فمن هذين الحديثين يتبين لك عظيم فائدة طول العمر في طاعة الله، فقد تتوب من ذب أو تدرك عملاً يدخلك الله به الجنة، وإياك ثم إياك أن تتمنى الموت بسبب ظروف دنيوية؛ كما يفعل مَن ضعف إيمانه وقَلَّ علمه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنَّينَّ أحدٌ منكمُ الموتَ؛ إمَّا محسنًا فلعلَّهُ أن يزدادَ خيرًا وإمَّا مسيئًا فلعلَّهُ أن يستعتبَ" رواه البخاري.

وإن كان داعياً لا محالة فليدعُ بما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ به، فإنْ كانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي" متفق عليه.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أطل أعمارنا في طاعتك، وتوفنا مسلمين.



[1] مسند أحمد (30/ 216 ط الرسالة): 18283، وإسناده حسن.

[2] مسند أحمد (19/ 103 ط الرسالة): 12047، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

[3] صحيح الجامع   3928

[4] مسند أحمد (29/ 226 ط الرسالة): 17680.

[5] أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني: 3185

[6] أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني.

هناك 4 تعليقات: