الجمعة، 10 يناير 2025

الخطيب .. ثابت بن قيس

 الخطيب .. ثابت بن قيس

إن من عقيدتنا أننا نحبُّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا نُفْرِط في حب واحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر، ونفاق، وطغيان.

فالصحابة هم الواسطة بين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبين أمَّته، فمنهم تَلَقَّتِ الأمَّة عنه الشريعة، وكانت على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة، نشروا الفضائل بين هذه الأمة: من الصدق والنصح والأخلاق والآداب، التي لا توجد عند غيرهم.

قال تعالى مُثنيًا عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}.

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».

* * *

وسأحدثكم عن صحابي جليل قد لا يعرفه كثير من الناس اليوم، ألا وهو: ثابت بن قيس بن شمّاس بن زهير الخزرجي الأنصاري، صاحب الصوت الجهوري، خطيب الأنصار "المتحدث الرسمي" إن صحَّ التعبير؛ عن أنس قال: خطب ثابت بن قيس مقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا؟ قال: «الجنّة»، قالوا: رضينا.

ثم صار خطيباً للنبي صلى الله عليه وسلم.

وأول مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت غزوة أحد، ثم شهد ما بعدها من المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام كما في التّرمذيّ بإسناد حسن فقال: «نِعْمَ ‌الرَّجلُ ‌ثابتُ ‌بن ‌قَيْس بن شَمَّاس».

ثابت بن قيس له عدة فضائل:

الفضيلة الأولى: كان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فعن جابر قال: جاءت بنو تميم فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زَيْنٌ، وذمَّنا شَيْنٌ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "إِنَّمَا ذَلِكُمُ اللَّهُ الَّذِي مَدْحُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ"، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لِنُشَاعِرَكَ وَنُفَاخِرَكَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا بِالشِّعْرِ بُعِثْتُ وَلَا بِالْفِخَارِ أُمِرْتُ، وَلَكِنْ هَاتُوا"، فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: "قم فأجبه"، فأجابه، وقام شاعرهم فذكر أبياتا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "أجبه" فأجابه.

فقام الأقرع بن حابس، فقال: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمُؤْتًى لَهُ[1]، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ، تكلم خطيبنا فكان خَطِيبُهُمْ أَحْسَنَ قولاً، وتكلم شاعرُنا فَكَانَ شَاعِرُهُمْ أَشْعَرَ وَأَحْسَنَ قولاً، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ... ثم أسلم وفد بني تميم جميعاً.

الفضيلة الثانية: بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة:

عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهل الجنة".

وفي رواية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟" فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، ولا أرفع صوتي أبدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.

الفضيلة الثالثة: استشهاده في سبيل الله:

بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد أكثر العرب، فقامت حروب الردة في عهد أبي بكر الصديق، بقيادة خالد بن الوليد، وكان من أشد معارك حروب الردة معركة اليمامة، حين ارتدت قبلية بني حنيفة وادعى مسيلمة الكذاب النبوة، فاستشهد كثير من الصحابة والتابعين، وانكشف كثير منهم.

فعن أنس قال: لما انكشف الناسُ يومَ اليمامة قلت لثابت بن قيس: ألا ترى يا عم، ووجدته يتحنّط[2]، فقال: ما هكذا كنّا نقاتل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بئس ما عوّدتم أقرانكم، اللَّهمّ إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قتل شهيداً ... فصدقت بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له.

الفضيلة الرابعة: أُجيزت وصيته بعد موته:

وكان عليه درع نفيسة، فمرّ به رجل مسلم فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه، فقال: إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيّعه، إني لما قتلت أخذ درعي فلان، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس تستنّ وقد كفأ على الدرع برمة، وفوقها رحل، فائت خالدا فمره فليأخذها، وليقل لأبي بكر: إنّ عليّ من الدّين كذا وكذا، وفلان عتيق.

فاستيقظ الرجل، فأتى خالدا، فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيته.

قال الإمام مالك: لا أعلم وصيةً أُجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه!

* * *

رضي الله عن ثابت بن قيس، وعن سائر الصحابة الكرام البررة، وجمعنا الله تعالى وإياهم في مستقر رحمته، بصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام في الفردوس الأعلى .. آمين آمين آمين.



[1] يعني: مؤيدٌ من الله عز وجل.

[2] يعني: يتطيّب بالكافور ونحوه من الطِّيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق