الثلاثاء، 31 ديسمبر 2024

 رأس السنة .. جذوره التاريخية وحكمه الشرعي

قبل فترة ليست بالبعيدة تكوَّن عندي اعتقاد أن غالب أفعال الناس اليوم في عباداتهم وعاداتهم لا تخلو أن تكون لها جذور تاريخية، سواء طرأ عليها تغيرات أو بقيت كما هي، فما من قول أسمعه أو حدث أشاهد إلا تطلَّبتُ له أصولاً في عمق التاريخ، ومما فتَّشتُ عنه آنفاً .. موضوع: الاحتفال برأس السنة الميلادية، متى نشأ هذا الاحتفال، وهل بدأ من عندنا، أم تم استيراده مع البضائع الفكرية الغربية المغلَّفة؟!

في الحقيقة وجدت -بعد البحث- أن لكل أمة أو ديانة يوماً في السنة محدد تحتفل فيه، بغض النظر عن تحديد ذلك اليوم، واحتفالهم هذا إما أن يكون لسبب ديني أو دنيوي، وأقدم ما وقفت عليه هو احتفال سكان ما بين النهرين -وهي أقدم حضارة عرفها المؤرخون- يقيمون احتفالاتهم بالسنة الجديدة في وقت هطول الأمطار الربيعية.

أما المصريون القدماء، فإنهم يحتفلون برأس السنة عندما تظهر "سوثيز" -وهي الشِّعرى اليمانية- أثناء النهار، في وقت يتزامن مع بدء فيضان النيل، وكانت احتفالاتهم تتخذ طابع المهرجانات الدينية؛ لأن حياتهم الاقتصادية تعتمد على الفيضان السنوي للنيل، فيما اعتبر البابليون رأس السنة وقتًا حاسمًا لاعتقادهم بأن إلههم "مردوك" يقرر في ذلك الوقت مصير البلد للسنة القادمة!

أما قدماء الرومان الوثنيين فكان يقدم بعضهم لبعض في هذه المناسبة هدايا من أغصان أشجار مقدسة، ثم أصبحوا بعد ذلك يقدمون ثمار الجوز المغلفة بالذهب أو العملات المعدنية المختومة عليها صورة "يانوس" إله الأبواب والبدايات كما كانوا يعتقدون، ويانوس هذا هو الذي سُمّي شهر "يناير" على اسمه، حتى جاءت الكنيسة النصرانية في عام (567م) وأبطلت هذه العادة وبعض الممارسات الوثنية الأخرى المرتبطة برأس السنة.

وفي العصور الوسطى في القرن الثالث عشر الميلادي تم إحياء هذه العادة الرومانية الوثنية من قِبَل الحكام الإنجليز مطالبين رعاياهم بتقديم هدايا رأس السنة، فكانت الملكة إليزابيث الأولى تحصل على مجموعة متنوعة من القفازات المزخرفة والمطعمة بالجواهر من خلال هذه العادة!!

وقد تغيرت تلك الممارسات في الزمن المعاصر، فاحتفالات رأس السنة لدى الغربيين اليوم وبعض الشعوب الأخرى صارت تتمثل بزيارة الأصدقاء والأقارب، وتبادل الهدايا، والمشاركة في الشعائر الدينية، إلى جانب إحداث الضجيج بواسطة المسدسات، والأبواق، والأجراس، والألعاب النارية، كما يذهب عدد كبير من الناس إلى حفلات ليلة رأس السنة الصاخبة، وعند منتصف الليل تقرع الأجراس وتطلق الصفارات والألعاب النارية ويصيح الجميع مهنئين: "كل عام وأنتم بخير".

فالأعياد -كما قرأتَ- لها جذور عقدية وأسباب دينية تتعلق بتلك الديانات والمعتقدات، يحتفل بها كل مَن انتمى لتلك الديانة والعقيدة.

وأما في التاريخ الهجري الذي يتبعه المسلمون فلا يشمل احتفالاً برأس السنة، سواء الميلادية أو الهجرية؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مشاركة أهل الجاهلية في أعيادهم، حتى ولو كان الاحتفال مجرد محاكاة ومشاكلة، ومجرد "فرح" من غير اعتقاد كما يدّعي البعض؛ لأننا نُهينا عن التشبه بما يختص بأهل الأديان الأخرى حتى ولو ظاهراً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ‌تَشَبَّهَ ‌بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"[1].

فالمسلمون لهم عيدان خاصَّان شرعهما لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام بوحيٍ من الله تعالى، وهما: عيد الفطر وعيد الأضحى، فعن أنس بن مالك قال: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟" قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ"[2].

لكن بحكم الثقافة الغربية الغالبة اليوم، واستخدام التقويم الميلادي، وانتشار وسائل التواصل حول العالم بين القاصي والداني، واختلاط الناس بعضهم ببعضهم بمختلف عقائدهم .. حتى صاروا يتشابهون كأسراب القطا !، دخلت على المسلمين هذه العادة التاريخية بكل ثقلها، وأباطيلها، كالتبرج، والاختلاط، والغناء، والحفلات، والصخب .. مع معتقداتٍ باطلة سرت إلى عقائد بعض المسلمين، مثل: طلب الأمنيات في السنة الميلادية الجديدة؛ كأن الله تعالى كتب المقادير على حسب التقويم الجريجوري![3].

نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

 



[1] أخرجه أحمد (5114) وأبو داود (4031) وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5/ 109): 1269.

[2] صحيح: أخرجه أحمد (13622) وأبو داود (1134).

[3] والحقيقة أن المقادير السنوية تُقدّر في ليلة القَدْر، وليس في رأس السنة الميلادية، يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 3-4] يعني: يُفَصَّل كل أمر يتعلق بالأرزاق والآجال وغيرهما مما يحدثه الله في تلك السنة.

فعليك بالدعاء لما فيه الخير لك في مواطن الدعاء التي حددها الشرع، مثل: ليلة القدر، بعد عصر الجمعة، بين الأذان والإقامة، في السجود ... إلخ، وهي كثيرة وفيها الكفاية والاتباع.

هناك تعليقان (2):

  1. خالد موسى حمادي فراج31 ديسمبر 2024 في 5:26 م

    أحسنتم ؛ بارك الله فيكم .

    ردحذف
  2. جزاك الله خيرا دكتورنا الغالي ونفع بك

    ردحذف