الثلاثاء، 25 يناير 2022

ذهبتْ بي السَّفالَة وذهبت بمالِكٍ النَّبَالَة

ذهبتْ بي السَّفالَة وذهبت بمالِكٍ النَّبَالَة


لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بالخلال الجميلة والخصال الحميدة، وكان عليه أفضل الصلاة والسلام، قدوة لأمته في سلامة الصدر وحسن الأخلاق؛ قال عليه الصلاة والسلام "إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق"[1]، وقد وصفه المولى جل جلاله بأنه عالي الأخلاق رفيع الشمائل، فقال تعالى: {وَإِنَّكَ ‌لَعَلَى ‌خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

وكان مع ما في نفسه من رفعة الأخلاق، يوجه أمته ويرغبهم بالتحلي بها، فيقول: "ما مِن شيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقلُ من حُسنِ الخلقِ، وإنَّ صاحبَ حُسنِ الخلقِ ليبلُغُ بِهِ درجةَ صاحبِ الصَّومِ والصَّلاةِ" [2].

ويقول كذلك: "ليسَ المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ"[3]،  أي: السَّليطِ الَّذي لا حَياءَ له، أو فاحِشِ القوْلِ وبذِيءِ اللِّسانِ.

كما قال الشاعر: 

والمرءُ بالأخلاقِ يسمو ذِكْرهُ     وبها يُفضَّلُ في الوَرى ويُوقَّرُ  

وصار هذا المفهوم يُتوارث بين الصحابة والتابعين والعلماء جيلاً بعد جيل، حتى أدخله نقاد الحديث في مناهجهم في الميزان النقدي، فجعلوه جرحا في عدالة الراوي الذي يطعن بالناس من غير بينة وبرهان؛ لأجل الغيرة والانصار، ولأجل الحسد وانتقاص أهل الفضل.

قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ما تكلم أحد في الناس، إلا ‌سقط ‌وذهب ‌حديثه"[4].

* * *

وتحدِّثُنا كتب التراث أنهم جرحوا جملة من الرواة بسبب فحش لسانهم، وطعنهم بأهل العلم من غير بينة ولا برهان، فمن هؤلاء:

الراوي: عبد الله بن سلمة الأفطس، قال عنه ابن عدي: "وقَّاعٌ في الناس"[5]، مع أن حديثه صحيح عند بعض المحدثين إلا أنه تُرك بسبب لسانه، قال الإمام أحمد: " وكان يروي عن الاعمش والناس، وكانت له مجالس، وكان صحيح الحديث، إلا أنه كان لا يسلم على لسانه أحد، فذهب حديثه وذكره"[6].

ومما يذكر عن حسده لأهل العلم، ما قاله الحميدي:

قال: "قدم علينا غندر[7] والأفطس، ونزل أحدهما قريبا من الآخر، فذهبت أنا والحويطي وأصحابنا وإذا غندر حوله لفيفٌ من أصحاب الحديث في منزله الذي نزل، والأفطس جالس على دكان في الطريق مقابل منزل غندر واجتمعنا إليه، فجعل يتغامز ... فنظر إليه ‌الأفطس فقال: "هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون ‌دينكم" يُعَرِّض بغندر، أي: أن غندرا ليس بأهل أن يؤخذ عنه !

قال الحميدي: فسبحان الله الذي رفع غندرا وذهب بذكر ‌الأفطس!

* * *

ومنهم: ‌عمر ‌بن ‌قيس المكي، المعروف بــــ "سَنْدَل"، قال ابن حجر: "متروك".

كان يستخف بالعلماء وأهل الفضل، من ذلك:

أنه اجْتمع مَالكٌ وسندلٌ عِنْد بعض الْأُمَرَاء، فَسَأَلَ سندلٌ مَالكاً عَن مَسْأَلَة، فأجابه، فَقَالَ سندل: أنت من الناس، أحيانا تخطئ وأحيانا ‌لَا ‌تُصِيب.

فَظن مَالكٌ أنه قَالَ: أحيانا تخطئ وأحيانا تصِيب، فَقَالَ مَالك: "كَذَاك النَّاس".

فقيل لمالك: لم تدر ما قال لك؟! ففطن لها مالكٌ بعدُ، وقال: "عهدت العلماء ولا يتكلمون بمثل هذا، وإنما أجيبه على ‌جواب ‌الناس"[8].

ومن استخفافه بالعلماء أنه قال: "ما أعجب أهل العراق تحدثهم عن الطيبين أولاد الطيبين عن سالم بن عبد الله وعروة والقاسم وابن المسيب وخارجة، وعبيد الله بن عبد الله، ويجيئوننا بالشعبي والنخعي وأبي الجوزاء أسماء المقاتلين المهارشين، ولو كان الشعبي عندنا لشعب لنا القدر، ولو كان النخعي عندنا لنخع لنا الشاة، ولو كان عندنا أبو الجوزاء ‌لأكلناه ‌بالتمر"[9].

من أجل هذا وذاك ابتُلي بترك الناس له حتى رأى ذلك بعينه، مع بذله الأسباب في تحصيل العلم، ولكن أنى يكون ذلك، فكان يقول:

"ذهبت بي السفالة وذهبت بمالك النبالة، كَانَ طلبي وطلبه واحد، ورجالي ورجاله واحد"[10].

* * *

ومنهم: علي بن عاصم بن صهيب الواسطي، كان يضع من قدر أهل العلم، قال الخطيب البغدادي: "كان يستصغر الناس ويزدريهم".

قال عفان: قَدِمْتُ أنا وبَـهْزُ مدينة "واسط"، فدخلنا على علي بن عاصم، فقال: ممن أنتما؟
قلنا: من أهل البصرة.
فقال: مَن بقي؟
فجعلنا نذكر حماد بن زيد، والمشايخ، فلا نذكر له إنسانا إلا استصغره، فلما خرجنا، قال بهز: ما أرى هذا يُفْلِحُ !

ومثل هذا جرى لعلي بن المديني؛ قال: أتيته بواسط فذكرت جريرا، فقال: لقد رأيته ناعسا ما يعقل ما يُقال له! 

ومَرَّ ذِكْرُ أبي عَوانة، فقال: وَضَّاع ذاك العبد! 

ومَرَّ ذِكْرُ ابن عُلَيَّةَ، فقال: ما رأيته يطلب حديثا قط!

وذُكِرَ له شُعبة، فقال: ذاك المسكين؛ كنتُ أُكَلِّمُ له خالداً الحذَّاء فَيُحَدِّثُه!

فتزعزعت مكانته بسبب ذلك في نفوس أهل الحديث، وما ذاك إلا جزاءً وفاقا، ورحم الله الإمام الشافعي حين أنشد:

إِذا رُمْتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى      وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ 

فَلا يَنــطِــقَـــنْ مِـنـكَ اللِسانُ بِسَوأَةٍ      فَكُلُّكَ سَوءاتٌ وَلِلناسِ أَلسُنُ

* * *

فأوصي نفسي وإخواني من طلاب العلم بحفظ اللسان، والتحرز من الطعن في المسلمين خصوصاً أهل العلم والفضل منهم، ما لم تقم بينة على انحراف الشخص أو نحوه، أما مع الظنون والشبهات فلا وكلا.

 

هذا والله تعالى أعلى وأعلم

والحمد لله رب العالمين



[1] انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (رقم 45)

[2] انظر: السلسة الصحيحة 4/167 للألباني، وقال: إسناده لا بأس به في الشواهد.

[3]  أخرجه الترمذي (1977) واللفظ له، وأحمد (3839) وصححه الألباني.

[4] [بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم (ص8)]

[5] الكامل 5/327

[6] [بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم (ص9)]

[7] قال عنه الذهبي: الحافظ، المجود، الثبت، أبو عبد الله الهذلي أحد المتقنين. (سير أعلام النبلاء ط الرسالة (9 / 98))

[8] سير أعلام النبلاء 8/67

[9] [إكمال تهذيب الكمال ط الفاروق (10/ 112)]

[10] [الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 9)]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق