الاثنين، 17 يناير 2022

العلمانية

 

العلمانية[1]


من أعظم النِّعم على البشرية جمعاء أن الله تعالى أنزل كتاباً محكماً من كل عيب وخلل، محفوظاً من كل تغيير وزلل، وعرفنا فيه على البداية والنهاية، وعلى الطريق الممدود بينهما، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

ولا يزال إبليس وأعوانه يجتالون الناس عن الصراط المستقيم، بالشهوات أحيانا وبالشبهات أحيانا أخرى، ولا شك أن زرع الشبهات في نفوس الناس أعظم وأنجع وأحب إليهم من زرع الشهوات؛ ذلك أن صاحب الشهوة ينزع متى ما أفاق من سكرات شهوته عائداً إلى رشده منتهياً عن غَيِّه، بينما صاحب الشبهة يعيش معها ظاناً أنه على الحق، كما قال الله تعالى عنهم {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ ‌أَنَّهُمْ ‌مُهْتَدُونَ}.

ولم يفتأ إبليس وأتباعه في تحريف الأديان، واختراع المذاهب الهدامة بغية دعوة الناس معه إلى أصل الجحيم حتى يصدق عليهم ظنه، ثم يتبرأ منهم في دركات النار، قال تعالى:

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

ومن تلك المذاهب الهدّامة التي عمت أرجاء المعمورة: "العلمانية".

تعتبر العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل بعيداً عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنه إلا في أضيق الحدود.

التعريف:

العلمانية Secularism وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية.

تاريخ نشأتها:

ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر[2] وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس، ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر.

أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية.

حقيقتها:

 هي دعوةٌ إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل، ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين، وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE.

ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني: عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.

تتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة، ولله سلطة الكنيسة، وهذا واضح فيما يُنسب إلى المسيح من قوله: "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

أسباب ظهورها وانتشارها:

أدت ظروف كثيرة قبل الثورة الفرنسية سنة 1789م وبعدها إلى انتشارها الواسع وتبلور منهجها وأفكارها وقد تطورت الأحداث وفق الترتيب التالي:

1- تحول رجال الدين إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس[3]، والرهبانية، والعشاء الرباني[4]، وبيع صكوك الغفران.

2- وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة.[5]

3- ظهور مبدأ العقل والطبيعة: فقد أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرر العقل وإضفاء صفات الإله على "الطبيعة".

4- الثورة الفرنسية: نتيجة لهذا الصراع بين الكنيسة من جهة وبين الحركة الجديدة من جهة أخرى، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب[6].

5- نظرية التطور: ظهر كتاب أصل الأنواع سنة 1859م لتشارلز دارون الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب، وقد جعلت الـجَـدَّ الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها. وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد وقد استغل اليهود هذه النظرية بدهاء وخبث.

6- ظهور "نيتشة": وفلسفته التي تزعم بأن الإله قد مات وأن الإنسان الأعلى (السوبر مان) ينبغي أن يحل محله.

7- "دور كايم" (اليهودي): جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية العقل الجمعي.

8- فرويد (اليهودي): اعتمد الدافع الجنسي مفسراً لكل الظواهر، والإنسان في نظره حيوان جنسي.

9- كارل ماركس (اليهودي): صاحب التفسير المادي للتاريخ الذي يؤمن بالتطور الحتمي وهو داعية الشيوعية ومؤسسها الأول الذي اعتبر "الدين أفيون الشعوب".

أبرز الشخصيات:

1-جان جاك روسو: سنة 1778م له كتاب "العقد الاجتماعي" الذي يعد "إنجيل الثورة".

2-مونتسكيو: له "روح القوانين".

3-سبينوزا (يهودي): يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة والسلوك، وله رسالة في اللاهوت والسياسة.

4-فولتير: صاحب "القانون الطبيعي".

5-كانْت: له "الدين في حدود العقل وحده" سنة 1804م.

6- وليم جودين: 1793م له العدالة السياسية ودعوته فيه دعوة علمانية صريحة.

7- ميرابو: الذي يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية.

الاتجاهات العلمانية في العالم العربي والإسلامي نذكر نماذج منها:

1- في مصر: دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت (1798-1801م)، وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان هذا الخديوي مفتوناً بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.

2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية، ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة بتدبير الإنجليز وانتهت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر.

3- الجزائر: إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830م.

4- تونس: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906م.

5- المغرب: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.

6- تركيا: لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك، وإن كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة.

7- العراق والشام: ألغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيهما.

8- معظم أفريقيا: فيها حكومات نصرانية امتلكت السلطة بعد رحيل الاستعمار.

9- انتشار الأحزاب العلمانية والنزعات القومية: حزب البعث، الحزب القومي السوري، النزعة الفرعونية، النزعة الطورانية، القومية العربية.

من أشهر دعاة العلمانية في العالم العربي والإسلامي:

أحمد لطفي السيد، إسماعيل مظهر، قاسم أمين، طه حسين، عبد العزيز فهمي، ميشيل عفلق، أنطون سعادة، سوكارنو، سوهارتو، نهرو، مصطفى كمال أتاتورك، جمال عبد الناصر، أنور السادات صاحب شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، د. فؤاد زكريا. د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة مؤخراً، وغيرهم.

الأفكار والمعتقدات:

1-بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً، وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان.

2- الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب.

3- إقامة حاجز سميك بين عالمي الروح والمادة، والقيم الروحية لديهم قيم سلبية.

4- فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي.

5- تطبيق مبدأ النفعية Pragmatism على كل شيء في الحياة.

6- اعتماد مبدأ الميكيافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق.

7- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية.

أما معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي التي انتشرت بفضل الاستعمار والتبشير فهي:

1- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة.

2- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.

3- الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ عن القانون الروماني.

4- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.

5- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.

6- تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح.

7- إحياء الحضارات القديمة.

8- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.

9- تربية الأجيال تربية لا دينية.

إذا كان هناك عذر ما لوجود العلمانية في الغرب فليس هناك أي عذر لوجودها في بلاد المسلمين لأن النصراني إذا حكمه قانون مدني وضعي لا ينزعج كثيراً ولا قليلاً لأنه لا يعطل قانوناً فرضه عليه دينه وليس في دينه ما يعتبر منهجاً للحياة، أما مع المسلم فالأمر مختلف حيث يوجب عليه إيمانه الاحتكام إلى شرع الله.

 

مراجع للاستزادة[7]



[1] أغلب المقال مختصر من كتاب: [الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/ 679)]

[2] القرن السابع عشر هو: الفترة الزمنية الممتدة من اليوم الأول لعام 1601 إلى اليوم الأخير من عام 1700 حسب التقويم الميلادي.

[3] «التنظيم الكهنوتي "‌الإكليروس": يدير البابا (*) الكنيسة (*) بواسطة كرادلة (*) في روما ومطارنة (*) في جميع أنحاء العالم. تنقسم الكنيسة عند الكاثوليك إلى أبروشيات (*) على رأس كل أبروشية مطران يعينه البابا، وفي كل أبروشية عدة كنائس يديرها كهنة رعاة لخدمة أبناء الكنيسة»

[الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/ 608)]

[4] «سر ‌العشاء ‌الرباني (*) : ويكون بالخمر أو الماء ومعه الخبز الجاف؛ حيث يتحول في زعمهم الماء أو الخمر إلى دم المسيح (*) ، والخبز إلى عظامه، وبذلك فإن من يتناوله فإنما يمتزج في تعاليمه بذلك، وكذلك ففرقُهم على خلاف في الاستحالة بل وفي العشاء نفسه»

[الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/ 576)]

[5] «مثل:

1- كوبرنيكوس: نشر سنة 1543م كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمت الكنيسة هذا الكتاب.

2- جرادانو: صنع التلسكوب فعُذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة وتوفي سنة 1642م.

3- سبينوزا: صاحب مدرسة النقد التاريخي وقد كان مصيره الموت مسلولاً.

4- جون لوك طالب بإخضاع الوحي (*) للعقل (*) عند التعارض»

[الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/ 680)]

[6] . وهناك من يرى أن الماسون استغلوا أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية وركبوا موجة الثورة لتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهدافهم.

[7] مراجع للتوسع:
- جاهلية القرن العشرين، محمد قطب.
- المستقبل لهذا الدين، سيد قطب.
- تهافت العلمانية، عماد الدين خليل.
- الإسلام والحضارة الغربية، محمد محمد حسين.
- العلمانية، سفر بن عبد الرحمن الحوالي.
- تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة، محمد عبد الله عنان.
- الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد قطب.
- الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب ومساعد اليافي.
- الفكر الإسلامي في مواجهة الأفكار الغربية، محمد المبارك.
- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، محمد البهي.
- الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه، د. يوسف القرضاوي.
- العلمانية: النشأة والأثر في الشرق والغرب، زكريا فايد.
- وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية للخروج من دائرة الكفر الاعتقادي، د. محمد شتا أبو سعد، القاهرة، 1413هـ.
- جذور العلمانية، د. السيد أحمد فرج دار الوفاء المنصورة 1990م.
- علماني وعلمانية، د. السيد أحمد فرج - بحث ضمن المعجمية الدولية بتونس 1986م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق