الجمعة، 14 يناير 2022

لقمان الحكيم


لقمان الحكيم

 

كان لقمان الحكيم من الشخصيات التاريخية التي ذكرها القرآن الكريم، بل سمى الله سورةً باسمه، وهي سورة "لقمان"، وسورة لقمان من سور القرآن المكية، وترتيبها في المصحف الشريف الحادية والثلاثون، وعدد آياتها أربع وثلاثون آية، وجاءت تسميتها بــــــ "لُقْمَان" لاشتمالها على وصايا لقمان التي تضمنت فضيلة الحكمة.

هذا الرجل قد عاش في زمن داود وسليمان عليهما السلام، بل قيل: إنه كان قبل داود عليه السلام، وكان يُفتي الناس، فلما بُعث داود كَفَّ عن الفُتيا، فسألوه عن سبب ذلك فقال: "ألا أكتفي إذ كُفيتُ؟!"

وذكر المسعودي أنه ولد على عشر سنين من ملك داود، ولم يزل باقياً في الأرض مظهراً للحكمة والزهد إلى أيام يونس بن متَّى.

واختلف فيه هل هو نبيٌ أم رجل صالح؟

والأكثرون على أنه رجل صالح، ففي الأخبار السابقة أن الله تعالى خيَّره بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة إشفاقا على نفسه من تكاليف النُّبوة[1].

وأخرج الإمام أحمد في الزهد عن خالد الرَّبَعي رحمه الله قال: كان ‌لقمان - عليه السلام - عبدًا حبشيًا نجارًا فقال له سيده: اذبح لي شاة، فذبح له شاة فقال له: ائتني بأطيب مضغتين فيها، فأتاه باللسان والقلب، فقال: أما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ قال: لا، قال: فسكت عنه.

ثم قال له: اذبح لي شاة، فذبح له شاة، فقال له: ألْقِ أخبثهما مضغتين، فرمى باللسان والقلب، فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبهما مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثهما مضغتين فألقيت اللسان والقلب، فقال: إنه ليس شيء بأطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا"[2].

ويروى أن رجلاً مَرَّ بلقمان والناس عنده فقال: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى. قال: ألست الذي كنت ترعى الغنم عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فما الذي بلغ بك ما أرى؟

قال: "تقوى الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السكوت عما لا يعنيني"[3].

وسبب حكاية القرآن لخبر لقمان، لما فيه من الدروس والعظة والعبرة، ولاسيما في مجال تربية الأولاد، وتنشئتهم التنشئة الطيبة الصالحة.

فقد قامت وصية لقمان لولده على الأمر بالتوحيد ونبذ الشرك، ثم على بر الوالدين، وطاعتهما في المعروف، ومراقبة الله في السر والعلن، وإقام الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما تجره هذه الخصال المذكورة من الأذى، كما قامت على حثه على التواضع، ولين الجانب، وبسط الوجه للناس، وعدم التكبر والخيلاء، ثم السكينة والوقار في المشي، وخفض الصوت[4].

قال تعالى ذكره:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا ‌لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)}

وقد وردت الآثار والأخبار من الكتب السابقة عن وصايا أخرى، تناقلها علماء الإسلام من غير نكير؛ لما تشتمل عليه من الحكمة والموعظة، منها:

حث العلماء على العمل بالعلم، والتحلي بالسمت الحسن، وعدم الإكثار من التحديث حتى لا يمل الناس منه ومن حديثه، قال ابن قتيبة: "وفي حكمة ‌لُقمان: إن العالمَ الحكيم يَدعو الناسَ إلى علمه بالصَّمْت والوَقَار، وإن العالِم الأَخْرَق يَطْرُد الناس عن علمه بالهَذَر والإكثار"[5].

ومن وصاياه لابنه إخباره بمرارة الفقر، والإشارة منه إلى السعي للكسب الحلال:

أخرج ابن أبي الدنيا عنه: "قال ‌لقمان لابنه: يا بني ذقت المرار كلَّه، فلم أذق شيئا أمرَّ من الفقر"[6].

وهي وصية شبيهة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذُ بِك منَ الفقرِ والكفرِ"[7].

ومن حكمه في تأديب ولده الآداب الرفيعة والأخلاق الحميدة قوله: "يا بُنَيَّ! لِتكُن كَلمتكَ طيبةً، ووجهك منبسطًا، تكن أحبَّ إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة"[8].

كما قال تعالى: {‌وَقُولُوا ‌لِلنَّاسِ حُسْنًا}.

وقول النبي صلى الله علي وسلم: "تبسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ"[9].

وبين له المقدار الذي يأخذ من الدنيا، والحد الذي ينتهي عنده، فقال: "يا بني لا تدخل الدنيا دخولاً يضر بآخرتك، ولا تتركها تركًا تكون كلاًّ على الناس"[10].

وهو كقول تعالى عن قوم قارون حين وعظوه ونصحوه قائلين: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ ‌نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

وأخبره أن اليقينَ وقودُ الأعمال، فكلما قَلَّ اليقين قَلَّ العمل، وكلما زاد اليقين زاد العمل، فقال: "يا بني العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله"[11].

لذلك تجد المنافقين يتخلفون عن الطاعات لضعف اليقين أو فقدانه لديهم، كما أخبر الله عنهم:

{وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا ‌وَهُمْ ‌كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}.

بينما أخبر عن المتقين أن الدنيا لا تشغلهم وأن اليقين متجذرٌ في قلوبهم، فقال تعالى:

{‌تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.

ووعظ ولده بموعظة ثمينة، وهي لزوم الصمت، فقال: "يا بني ما ندمت على الصمت قط، وإن كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب"[12]. وفي الزهد للإمام أحمد عن أبي نجيح رحمه الله قال: قال ‌لقمان: "الصمت حكمة وقليل فاعله"[13].

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَمَتَ نجا"[14]، وقال كذلك: "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ" متفق عليه[15].

وحثه على لزوم حسن الأخلاق، فإن سيء الخلُق لا يؤذي إلا نفسه؛ باجتناب الناس، وبغضهم له، كما أخبره أن الكذب شينٌ يشين صاحبه ولو كان جميلاً، فقال: "يا بني من ساء خلقه عذب نفسه، ومن كذب ذهب جماله"[16].

ووعظه بالاستعداد للموت وعدم الاغترار بالدنيا وطول الأمل، فإن الآخرة قريبة، وكل ما هو آتٍ قريب، فقال: "يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراع يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت، واستقبلت الآخرة، وإن دارًا تسير إليها، أقرب إليك من دار تخرج منها"[17].

كما قال الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ ‌حِسَابُهُمْ ‌وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الجَنَّةُ أقْرَبُ إلى أحَدِكُمْ مِن شِراكِ نَعْلِهِ، والنَّارُ مِثْلُ ذلكَ" أخرجه البخاري[18].

هذا وإن مواعظه أكثر من ذلك مبثوثة في التراث، يجدها من تتبعها، وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله المستعان وعليه التكلان.

والحمد لله رب العالمين

 



[1] "قاموس القرآن الكريم – معجم الأعلام الصريحة ص333".

[2] [الزهد للإمام أحمد / 126]

[3] وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت".

[4] "قاموس القرآن الكريم – معجم الأعلام الصريحة ص333".

[5]  [عيون الأخبار 2/ 520]

[6] [موسوعة ابن أبي الدنيا 7/ 500].

[7] صحيح الجامع 1483

[8] [الجامع المنتخب / 66]

[9] أخرجه الترمذي (1956) وحسنه الألباني.

[10] [الحلية (تهذيبه) 3/ 188]

[11] [موسوعة ابن أبي الدنيا 1/ 34]

[12] [الزهد للإمام أحمد / 126، 127]

[13] [الزهد للإمام أحمد / 208]

[14] أخرجه الترمذي (2501)، وأحمد (6481) وصححه الألباني.

[15] أخرجه البخاري (6018)، ومسلم (47)

[16] [موسوعة ابن أبي الدنيا 5/ 220]

[17] [الحلية (تهذيبه) 2/ 354]

[18] (6488)

هناك تعليقان (2):

  1. بارك الله فيك شيخنا الجليل و نفع الله بك الإسلام و المسلمين

    ردحذف