الثلاثاء، 31 ديسمبر 2024

 رأس السنة .. جذوره التاريخية وحكمه الشرعي

قبل فترة ليست بالبعيدة تكوَّن عندي اعتقاد أن غالب أفعال الناس اليوم في عباداتهم وعاداتهم لا تخلو أن تكون لها جذور تاريخية، سواء طرأ عليها تغيرات أو بقيت كما هي، فما من قول أسمعه أو حدث أشاهد إلا تطلَّبتُ له أصولاً في عمق التاريخ، ومما فتَّشتُ عنه آنفاً .. موضوع: الاحتفال برأس السنة الميلادية، متى نشأ هذا الاحتفال، وهل بدأ من عندنا، أم تم استيراده مع البضائع الفكرية الغربية المغلَّفة؟!

في الحقيقة وجدت -بعد البحث- أن لكل أمة أو ديانة يوماً في السنة محدد تحتفل فيه، بغض النظر عن تحديد ذلك اليوم، واحتفالهم هذا إما أن يكون لسبب ديني أو دنيوي، وأقدم ما وقفت عليه هو احتفال سكان ما بين النهرين -وهي أقدم حضارة عرفها المؤرخون- يقيمون احتفالاتهم بالسنة الجديدة في وقت هطول الأمطار الربيعية.

أما المصريون القدماء، فإنهم يحتفلون برأس السنة عندما تظهر "سوثيز" -وهي الشِّعرى اليمانية- أثناء النهار، في وقت يتزامن مع بدء فيضان النيل، وكانت احتفالاتهم تتخذ طابع المهرجانات الدينية؛ لأن حياتهم الاقتصادية تعتمد على الفيضان السنوي للنيل، فيما اعتبر البابليون رأس السنة وقتًا حاسمًا لاعتقادهم بأن إلههم "مردوك" يقرر في ذلك الوقت مصير البلد للسنة القادمة!

أما قدماء الرومان الوثنيين فكان يقدم بعضهم لبعض في هذه المناسبة هدايا من أغصان أشجار مقدسة، ثم أصبحوا بعد ذلك يقدمون ثمار الجوز المغلفة بالذهب أو العملات المعدنية المختومة عليها صورة "يانوس" إله الأبواب والبدايات كما كانوا يعتقدون، ويانوس هذا هو الذي سُمّي شهر "يناير" على اسمه، حتى جاءت الكنيسة النصرانية في عام (567م) وأبطلت هذه العادة وبعض الممارسات الوثنية الأخرى المرتبطة برأس السنة.

وفي العصور الوسطى في القرن الثالث عشر الميلادي تم إحياء هذه العادة الرومانية الوثنية من قِبَل الحكام الإنجليز مطالبين رعاياهم بتقديم هدايا رأس السنة، فكانت الملكة إليزابيث الأولى تحصل على مجموعة متنوعة من القفازات المزخرفة والمطعمة بالجواهر من خلال هذه العادة!!

وقد تغيرت تلك الممارسات في الزمن المعاصر، فاحتفالات رأس السنة لدى الغربيين اليوم وبعض الشعوب الأخرى صارت تتمثل بزيارة الأصدقاء والأقارب، وتبادل الهدايا، والمشاركة في الشعائر الدينية، إلى جانب إحداث الضجيج بواسطة المسدسات، والأبواق، والأجراس، والألعاب النارية، كما يذهب عدد كبير من الناس إلى حفلات ليلة رأس السنة الصاخبة، وعند منتصف الليل تقرع الأجراس وتطلق الصفارات والألعاب النارية ويصيح الجميع مهنئين: "كل عام وأنتم بخير".

فالأعياد -كما قرأتَ- لها جذور عقدية وأسباب دينية تتعلق بتلك الديانات والمعتقدات، يحتفل بها كل مَن انتمى لتلك الديانة والعقيدة.

وأما في التاريخ الهجري الذي يتبعه المسلمون فلا يشمل احتفالاً برأس السنة، سواء الميلادية أو الهجرية؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مشاركة أهل الجاهلية في أعيادهم، حتى ولو كان الاحتفال مجرد محاكاة ومشاكلة، ومجرد "فرح" من غير اعتقاد كما يدّعي البعض؛ لأننا نُهينا عن التشبه بما يختص بأهل الأديان الأخرى حتى ولو ظاهراً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ‌تَشَبَّهَ ‌بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"[1].

فالمسلمون لهم عيدان خاصَّان شرعهما لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام بوحيٍ من الله تعالى، وهما: عيد الفطر وعيد الأضحى، فعن أنس بن مالك قال: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟" قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ"[2].

لكن بحكم الثقافة الغربية الغالبة اليوم، واستخدام التقويم الميلادي، وانتشار وسائل التواصل حول العالم بين القاصي والداني، واختلاط الناس بعضهم ببعضهم بمختلف عقائدهم .. حتى صاروا يتشابهون كأسراب القطا !، دخلت على المسلمين هذه العادة التاريخية بكل ثقلها، وأباطيلها، كالتبرج، والاختلاط، والغناء، والحفلات، والصخب .. مع معتقداتٍ باطلة سرت إلى عقائد بعض المسلمين، مثل: طلب الأمنيات في السنة الميلادية الجديدة؛ كأن الله تعالى كتب المقادير على حسب التقويم الجريجوري![3].

نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

 



[1] أخرجه أحمد (5114) وأبو داود (4031) وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5/ 109): 1269.

[2] صحيح: أخرجه أحمد (13622) وأبو داود (1134).

[3] والحقيقة أن المقادير السنوية تُقدّر في ليلة القَدْر، وليس في رأس السنة الميلادية، يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 3-4] يعني: يُفَصَّل كل أمر يتعلق بالأرزاق والآجال وغيرهما مما يحدثه الله في تلك السنة.

فعليك بالدعاء لما فيه الخير لك في مواطن الدعاء التي حددها الشرع، مثل: ليلة القدر، بعد عصر الجمعة، بين الأذان والإقامة، في السجود ... إلخ، وهي كثيرة وفيها الكفاية والاتباع.

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2024

إِنَّ اللهَ ‌لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ

 إن الله ليؤيد هذا الدِّين بالرجل الفاجر

مما يحتمه علينا واقعنا اليوم، وانتشار المسلمين في مختلف القارَّات، أن نتعلم فقه التعامل مع نوع خاص من الناس، وهم: غير المسلمين الذين يدافعون عن المسلمين وحقوقهم.

فأولئك لهم أيادٍ بيضاء في الدفاع عن قضايا المسلمين المختلفة، ولهم كتابات متنوعة، ومناصرات مشهودة، ولا أريد أن أُسمي أحداً بعينه على قيد الحياة، ولكن سأذكر شخصيات ماتت وقد أنصفت الإسلام والمسلمين، منهم:

- المستشرق الإنجليزي الشهير جورج برنارد شو، فإنه من أشهر الغربيين الذين أنصفوا الإسلام خلال القرون الماضية، وله كتاب اسمه: "محمد"، أحرقته السلطات البريطانية خوفًا من تأثيره.

- كذلك الروسي ليو تولستوي -أحد عمالقة الروائيين وأحد المصلحين الاجتماعيين- له كتابه اسمه: "حِكَم النبي محمد"، دافع فيه عن الإسلام في مواجهة التزوير والتلفيق اللذين لَحِقَا بالإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم على يد جمعيات المبشرين في "قازان" في روسيا.

ومن هؤلاء اليوم أعداد ليست بالقليلة على الصعيد الإعلامي والسياسي والاجتماعي ... إلخ، فتجد منهم عُمدةً في مدينةٍ ما يُعطي المسلمين كامل حقوقهم وحرياتهم الدينية، وآخر في الإعلام يدفع التشويه المضلل حول الإسلام والمسلمين ويبرئ ساحتهم في أحداث عديدة، وآخرون يناصرون الفلسطينيين في المحافل الدولية، وغيرهم ممن يضم اللاجئين المسلمين في ديارهم ... وهكذا.

فيتساءل كثير من المسلمين: ما موقفنا من هؤلاء؟ وكيف نتعامل معهم؟ وما مصيرهم في الآخرة كونهم نصروا دين الله؟

ومع غياب الأجوبة وضبابيتها فقد يحدث تصادم وانشقاقات فكرية وعقدية بين المسلمين أنفسهم، لذلك لا بد من بيان حقيقة الحال والمآل.

أولاً: التعامل مع غير المسلمين مفصَّل في سورة الممتحنة، فغير المسلمين إما مسالمون أو محاربون، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8-9] 

فكما ترى أن الله تعالى أباح لنا حسن التعامل مع الصنف الأول بِراً وعدلا، ونهانا عن تولى الصنف الثاني الذين يحاربوننا، بشكل مباشر أو غير مباشر.

وعن سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس: "نَزَلَتْ في خُزاعة، كانوا قد صالَحوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم على أن لا يُقاتلوه ولا يُعِينوا عليه أحدًا، فرخّص الله في بِرِّهم"[1].

وليست الآية خاصة في خزاعة، بل في كل مَن شابههم، هذا على الصعيد الاجتماعي أو إن شئت فقُل: "على الصعيد الدولي".

أما على الصعيد الشخصي فيتبين من حادثة أسماء بنت أبي بكر الصديق مع أمها المشركة "الـمُسالِـمة"، فعن عبد الله بن الزّبير قال: قَدمتْ قُتَيْلة ابنة عبد العُزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا؛ ضِباب، وأَقِطٍ، وسمْن، وهي مُشركة، فأبتْ أسماءُ أن تَقبل هدّيتها، أو تُدخلها بيتها، حتى أرسلتْ إلى عائشة: أنْ سَلِي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأَلتْه؛ فأنزل الله: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخر الآية، فأمَرها أن تَقبل هديّتها، وتُدخلها بيتها[2].

ولا يمنع من تعدد أسباب النزول عند المفسرين، أو نزول الآية لعدة أسباب.

هذا من حديث التعامل الظاهر، وليست المحبة القلبية.

ثانياً: لا بد من الاعتقاد الجازم أن الإنسان لن ينال رضى الله سبحانه إلا بالتوحيد، وعدم الشرك، واتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما يأمر وينهى.

أما غير ذلك فلن يكون له شفيعاً عن الله تعالى، لا أخلاق حسنة، ولا مناصرة المسلمين ولا تبرعات ولا ولا ولا ... إلخ.

وخير ما يدل على ذلك حادثتان: (الأولى دفاعٌ عسكري، والأخرى دفاعٌ اجتماعي!)

الأولى: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قَالَ: "شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم [غزوة] خَيْبَرَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الَّذِي قُلْتَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِلَى النَّارِ، قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ ‌لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ".

فهذا الرجل قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداء الله عز وجل، ودافع عن دينه، مع ذلك .. لم يشفع له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علَّلَ ذلك بقوله: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ".

الحادثة الثانية: قصة دفاع أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن دفاعه دام سنوات باستماتة، وحب وشهامة، ففي الصحيحين من حديث المسيب بن حزن: "أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ ‌مِلَّةِ ‌عَبْدِ ‌الْمُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى ‌مِلَّةِ ‌عَبْدِ ‌الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}".

فلما مات أبو طالب جاء ولده عليٌّ -رضي الله عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عَمَّك الشيخَ الضالَّ قد مات، قال: "اذهبْ فَوارِ أباكَ" رواه أبو داود بإسناد حسن.

ولم يشهد النبي صلى الله عليه وسلم دفنه، ولم يصلِّ عليه.

فيتلخص مما سبق:

أن هؤلاء الذين يُدافعون عن الإسلام والمسلمين أو على الأقل -مسالمون-، يُشكرون على ما بذلوا، ويُدعونَ إلى الدخول في دين الله تعالى؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عمّه أبي طالب.

فإن مات هؤلاء فلا يُدعى لهم بالرحمة والمغفرة، ولا يُصلى عليهم، ولا يُدفنون في مقابر المسلمين، كما حصل مع أبي طالب، فقد نهى الله تعالى عن الدعاء له، ولم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

 



[1] موسوعة التفسير المأثور (21/ 551).

[2] موسوعة التفسير المأثور (21/ 551).

الجمعة، 6 سبتمبر 2024

‌حديث: "من ‌عشق ‌فعف، فمات، فهو شهيد"

حديث: "من ‌عشق ‌فعف، فمات، فهو شهيد"

هذا الحديث مما يتادوله العشاق في نواديهم ومجالسهم، فيبررون فيه العشق والغرام، ليس كذلك فقط، بل جعلوا العاشق في منازل الشهداء، فهذا الأمر -إن صح الحديث- يُصيّر العشق عبادة يُتسابق إليها حتى تُحصَّل هذه الكرامة، فمن لم يعشق فقد فرَّط في سبب من أسباب الشهادة!!

ولا شك أن هذا الكلام لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشبه كلامه، ولا هديه، وهو الذي أمر بسد الذرائع في هذا الباب كغض البصر وحفظ الفرج، وعدم الدخول على النساء ... إلخ.

وهذا الحديث أخرجه الحاكم في "تاريخه"[1]، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"[2]، من حديث: سويد بن سعيد، نا علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس به مرفوعاً.

قلت: سويد بن سعيد متكلم فيه؛ قال أبو حاتم الرازي: "كان صدوقا، وكان يدلس يكثر ذاك -يعني التدليس-"[3].

وهو مع تدليسه عَمِي وصار يُلقَّن فيتلقن؛ ضعفه البخاري فقال: "فيه نظر، كان عمي فلُقِّنَ ما ليس من حديثه"[4]، وكذا قال الدارقطني.

حتى إن الحاكم لما رواه في تاريخه قال: "يقال: إن يحيى بن معين لما ذُكر له هذا الحديث قال: لو كان لي فرس ورمح غزوت سويداً"[5].

قال ابن حجر: وأنكر الأئمة على سويد هذا الحديث، حتى وإن كان مسلمٌ أخرج له في صحيحه فقد اعتذر مسلمٌ عن ذلك، وقال إنه لم يأخذ عنه إلا ما كان عاليا وتوبع عليه، ولأجل هذا أعرض عن مثل هذا الحديث[6].

قال ابن القيم: والصواب في الحديث أنه من كلام ابن عبّاس رضي الله عنهما موقوفًا عليه، فغلِط سويد في رفعه، ولا يشبه هذا كلام النبوة، نعم.. ابن عبّاس غير مستنكَر ذلك عنه[7].

ثم شكك في صحة الموقوف أيضاً، فقال: "‌وفي ‌صحَّته ‌موقوفًا ‌على ‌ابن ‌عبَّاسٍ ‌نظرٌ"[8].

وله متابعة كما عند الخرائطي في "اعتلال القلوب"[9]، قال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن عيسى من ولد عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا الزبير بن بكار، عن عبد الله بن عبد الملك الماجشون، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس به مرفوعاً.

قال أحمد بن حنبل: يعقوب ليس بشيء.

وحسّن ابن الملقن هذه المتابعة[10]، وصححها السخاوي[11]، إلا أنها رواية مُعلة؛ قال ابن حجر: "وهذه الطريق غلط فيها بعض الرواة؛ فأدخل إسناداً في إسناد"[12].

أما ابن القيم فقال: "وأمّا حديث ابن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا؛ فكذِبٌ على ابن الماجشون، فإنّه لم يحدث بهذا، ولا حدّث به عنه الزبير بن بكّار، وإنما هذا من تركيب بعض الوضّاعين، ويا سبحان الله! كيف يحتمل هذا الإسناد مثل هذا المتن؟! فقبّح الله الوضّاعين!"[13].

وأخرجه ابن الجوزي في "ذم الهوى"[14]، من حديث: من حديث محمد بن جعفر بن سهل، حدثنا يعقوب بن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس به مرفوعا.

وهذا إسناد معضل، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذا غلط قبيح، فإنّ محمَّد بن جعفر [بن سهل] هذا هو: الخرائطيّ، ووفاته سنة سبع وعشرين وثلاث مائة، فمحال أن يدرك شيخُه يعقوبُ ابنَ أبي نَجيح، لا سيّما وقد رواه في كتاب "الاعتلال" عن يعقوبَ هذا، عن الزبير، عن عبد الملك، عن عبد العزيز، عن ابن أبي نجيح، والخرائطي هذا مشهور بالضعف في الرواية، ذكره أبو الفرج في كتاب الضعفاء، وكلام حفاظ الإِسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان"[15].

قلت: وهو الصواب فإن ابن الجوزي بيَّنه ونَسَبَه في "العلل المتناهية" فقال: "محمد بن جعفر الخرائطي قال نا يعقوب بن عيسى ..." بالإسناد السابق[16].

فالحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً لا معنى ولا سنداً، فهو حديث: "ضعيف جداً".



[1] تخريج أحاديث الإحياء = المغني عن حمل الأسفار (ص992).

[2] العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 285).

[3] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 240)

[4] الجامع في الجرح والتعديل (1/ 359).

[5] المقاصد الحسنة (ص658).

[6] التلخيص الحبير (2/ 325 ط العلمية).

[7] الداء والدواء (ص569)، (ص572).

[8] زاد المعاد ط عطاءات العلم (4/ 401).

[9] اعتلال القلوب - الخرائطي (1/ 59): 106.

[10] البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير (5/ 372).

[11] المقاصد الحسنة (ص658).

[12] التلخيص الحبير (2/ 325 ط العلمية).

[13] الداء والدواء (ص570).

[14] ذم الهوى (ص326).

[15] الداء والدواء (ص571).

[16] العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 285).

الاثنين، 27 مايو 2024

حديث: ما أصر من استغفر ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة

"ما أصر من استغفر ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة"


هذا الحديث أخرجه أبو داود في "سننه"[1]، والترمذي في "سننه"[2]، والبزار في "مسنده"[3]، من حديث: عثمان بن واقد العمري، عن أبي نصيرة، عن مولى لأبي بكر الصديق، عن أبي بكر الصديق به.

وسكت عنه أبو داود، وقد قال في رسالته لأهل مكة: "كل ما سكتُّ عنه فهو: صالح".

وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نصيرة، وليس إسناده بالقوي".

وقال البزار: وهذا الحديث لا نحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه إلا عن أبي بكر بهذا الطريق، وأبو نصيرة ‌ومولى ‌أبي ‌بكر ‌فلا ‌يُعرفان.

قلت: عثمان بن واقد، وثقه ابن معين، وقال ابن حجر: "صدوق، ربما وهم"، ومولى أبي بكر: مجهول.

أما أبو نصيرة فقد عرفه غير البزار، كأبي حاتم الرازي[4]، ووثقه أحمد، وقال ابن معين: صالح[5].

وقال ابن حبان: مسلم بن عبيد أبو ‌نصيرة الواسطي الدمشقي، كان يخطئ على قلة روايته[6].

قال الزيلعي [ت ٧٦٢]: "ولكن جهالة مثلِهِ [مولى أبي بكر] لا تضر؛ لأنه تابعي كبير، وتكفيه نسبته إلى أبي بكر الصديق، فالحديث حسن، والله أعلم"[7].

وهذه العبارة بحروفها قالها الحافظ ابن كثير [ت ٧٧٤] في تفسيره[8]، فلا أدري أيهما نقل عن الآخر، فالحديث حسنٌ عندهما.

قال الشيخ أبو إسحاق الحويني -حفظه الله-: "فهذا كلام غريب، ويتعجب أن يصدر من مثل الحافظ ابن كثير؛ لأنه مخالف لأصول أهل الحديث من أن مجهول الحال لا تثبت بخبره حجة، فضلاً عن مجهول العين، ومولى أبي بكر رضي الله عنه لا يُعرف مَن هو أصلاً، ونسبته لأبي بكر لا تنفعه، وإن تجوز الحافظ ابن كثير رحمه الله في هذا خلافاً للقاعدة، ومما يُستغرب أيضاً أن ينقل الشيخ العلامة المحدث أبو الأشبال رحمه الله قول الحافظ ابن كثير في تعليقه على تفسير الطبري ويقره عليه، ولا يتعقبه، وهذا من الأدلة الكثيرة على تسامح الشيخ أبي الأشبال يرحمه الله"[9].

قلت: بل هو الواقع عند أهل الحديث، كما قال السخاوي: "ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيفٌ، إلا الواحد بعد الواحد كالحارث الأعور والمختار الكذاب"[10].

وحسنه ابن مفلح الحنبلي في "الآداب الشرعية" وقال: "وهو حديث حسن، ومولى أبي بكر لم يسم، والمتقدمون حالهم حسن"[11].

وقد حسن الحديث أيضاً: ابن حجر[12]، والعيني[13] في شرحيهما على البخاري، فهؤلاء خمسة، فالقول بتحسين هذا الحديث له وجه.

وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في "الدعاء"[14]، قال: حدثنا محمد بن الفضل السقطي، ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، ثنا أبو شيبة، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس به.

ورجح الشيخ الألباني أن أبا شيبة المذكور في الإسناد هو: إبراهيم بن عثمان الكوفي قاضي واسط، بعدما كان يظنه الثقة: "أبا شيبة، سعدويه".

قال الشيخ: "ثم شككت في كون أبي شيبة هذا هو سعيد بن عبد الرحمن المذكور [سعدويه]، وذلك لأنهم وإنْ ذكروا له [لسعدويه] رواية عن ابن أبي مليكة؛ فإنهم لم يذكروا في الرواة عنه سعيد بن سليمان الواسطي، بل ذكره الحافظ المزي في الرواة عن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفي قاضي واسط، فترجح عندي أنه هو صاحب هذا الحديث لغرابته".

قلت: ولم يذكروا في مشايخ إبراهيم بن عثمان الكوفي قاضي واسط ابن أبي مليكة، فلم يستقم له على هذا المسلك!

فقال الشيخ الألباني بعد ذلك: "وعلى ذلك فإسناد الحديث ضعيف جداً؛ لأن إبراهيم هذا شديد الضعف متروك الحديث؛ كما قال النسائي وغيره، فهو لا يصلح شاهداً لحديث أبي بكر الصديق"[15].

وفي الحقيقة ليس كما ذهب إليه الشيخ الألباني بأن أبا شيبة هو: إبراهيم بن عثمان الكوفي قاضي واسط، إنما هو: يزيد بن معاوية أبو شيبة الخراساني؛ فإن ابن أبي الدنيا أخرج هذا الإسناد -والمتن بمعناه- وبَيـَّن نِسبة أبي شيبة، فقال: حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي، عن أبي شيبة الخراساني، ثنا ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "‌لا ‌صغيرة ‌مع ‌إصرار، ولا كبيرة مع استغفار"[16].

ويزيد بن معاوية أبو شيبة الخراساني، سكن مكة، وروى عن ابن أبي مليكة وغيره، وروى عنه: سعيد بن سليمان الواسطي وغيره، قال أبو حاتم: "منكر الحديث، ليس بالقوى"، وقال أبو زرعة: "صالح"، وقال الذهبي: "أتى بخبر منكر" فذكر هذا الحديث، فهو حديث منكر[17].

فالذي يظهر لي والله أعلم أن حديث أبي بكر حديثٌ حَسَنٌ.



[1] سنن أبي داود (2/ 625 ت الأرنؤوط): 1514.

[2] سنن الترمذي (5/ 523): 3559.

[3] مسند البزار = البحر الزخار (1/ 205).

[4] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 188).

[5] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 188).

[6] الثقات لابن حبان (5/ 399).

[7] تخريج أحاديث الكشاف (1/ 227).

[8] تفسير ابن كثير - ت السلامة (2/ 125).

[9] النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة (1/ 68 بترقيم الشاملة آليا).

[10] المتكلمون في الرجال (ص96).

[11] الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 87).

[12] فتح الباري لابن حجر (1/ 112 ط السلفية).

[13] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 277).

[14] الدعاء - الطبراني (ص507): 1797.

[15] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (9/ 458).

[16] التوبة لابن أبي الدنيا (ص132): 173.

[17] أفاده: أبو عمرو ياسر بن محمد فتحي آل عيد، في كتابه: فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود (18/ 414).