الأربعاء، 9 فبراير 2022

القضاء والقدر في حادثة الطفل المغربي ريَّــان


القضاء والقدر في حادثة الطفل المغربي ريَّــان 

 

في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى" متفق عليه.

لقد تابع العالم بأسره حادثة وقوع الطفل المغربي ريَّان في بئرٍ معطَّلةٍ يصل طوله إلى أربعين متراً تقريباً لمدة خمسة أيام، والناس يتابعون ويترقبون نجاته بفارغ الصبر، حتى نجح فريق الإنقاذ من الوصول إليه، ولكن بعد فوات الأوان؛ لقد وصلوا متأخرين .. مات الطفل ريان، بكت عليه أعين الناس في مشارق الأرض ومغاربها.

اللهم اجعله ذخرًا لوالديه، وفرطًا وشفيعًا مجاباً، واجبر قلوب ذويه وارزقهم الصبر والاحتساب.

 * * *

هذا وقد يتساءل البعض -بعد هذه الحادثة- لماذا لم يُنَجِّ الله تعالى هذا الطفل من الموت؟ لماذا لم يُفرح المسلمين بنجاته؟ لماذا ولماذا؟!

ودواء هذه التساؤلات والوساوس أن تؤمن بالقضاء والقدر!

إنها عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر أيها المسلمون!

قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "القَدَرُ ‌سِرٌ من أسرار الله تعالى، ضربت دونه الأستار واختص سبحانه به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم، وقد حجب الله تعالى علم القدر عن العالم، فلا يعلمه مَلَكٌ ولا نبي مُرسل، وقيل: إن ‌سِرَّ القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل ذلك"[1].

وأفضل إيضاح وأبسط شرح لهذا المعتقد -الذي هو ركن من أركان الإيمان- يكمن في قصة موسى والخضر في سورة الكهف.

ذلك أن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبداً من عبادي "بمجمع البحرين"، هو أعلم منك!

إنه الـخَضِر، اجتمع موسى به فــــــ {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ‌مَعِيَ ‌صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨)}

كيف تصبر يا موسى على أمور ستنكرها ظاهراً؛ فإني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه.

فأصرَّ موسى وقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}.

فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرفوا ‌الخضر، فحملوهما بغير أجرة.

فعمد ‌الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول -أجرة-، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟!

{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}

فانطلقا، فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ ‌الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده!

فقال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}

فاطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارا مائلا يريد أن يسقط، فأومأ الخضر إليه بيده فأصلحه، قال موسى: قومٌ أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجرا !

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨)}

أراد الخضر أن يعلِّم موسى أن وراء ما رأيته من الآلام والأحزان حكم بالغة وعلل خفيه لا يعلمها إلا الله سبحانه، فأمر الله كله حسن.

قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩)}

أي: السفينة التي أنكرت عليَّ خرقها، فكانت لضعفاء يعملون عليها في البحر لا يستطيعون الدفاع عنها، فأردت أن تصير مَعيبة بما أحدثته فيها، حتى لا يستولي عليها ملك كان أمامهم يأخذ كل سفينة صالحة كرهًا من أصحابها، ويترك كل سفينة معيبة.

{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠)}

وأما الغلام الذي أنكرت عليّ قتله فكان أبواه مؤمنَين، وكان هو في علم الله كافرًا، فخِفنا إنْ بلغ أن يحملهما على الكفر بالله والطغيان من فرط محبتهما له، أو من فرط حاجتهما إليه.

{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١)}

أي: فأردنا أن يعوّضهما الله ولدًا خيرًا منه دينًا وصلاحًا وطهارة من الذنوب، وأقرب رحمةً بوالديه منه.

{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢)}

أي: الحائط الذي أصلحته وأنكرت عليّ إصلاحه، كان لصغيرين في المدينة التي جئناها قد مات أبوهما، وكان تحت الحائط مال مدفون لهما، وكان أبو هذين الصغيرين صالحًا، فأراد ربك - يا موسى - أن يبلغا سن الرشد ويكبرا، ويخرجا مالهما المدفون من تحته، إذ لو سقط الحائط الآن لانكشف المال وتعرّض للضياع، وكان هذا التدبير رحمة من ربك بهما، وما فعلته من اجتهادي، ذلك تفسير ما لم تستطع الصبر عليه.

نعم .. هناك أمور تحدث يصعب علينا تفسيرها بعقولنا القاصرة، فقد يحث شيء اليوم حكمته تظهر بعد سنوات عديدة.

فــ لله الحكمة البالغة بسبب موت هذا ريان، فقد يكون هذا خير له ولوالديه؛ ربما يصاب ببلاء إذا كبر لا يستطيع الصبر معه، ربما يفتن والديه، ربما ربما ربما ... فالله أعلم وأحكم الحاكمين.

ومَن تأمل أحداث القرآن وقصصه وقارن بين بداية القصة والنهاية وجد فيه بوضوح تقدير العزيز العليم، كقصة آدم والشجرة، ونوح والسفينة، وإبراهيم مع إسماعيل، يوسف مع إخوته، ويونس مع قومه، ومحمد وهجرته صلوات ربي وسلامه عليهم.

* * *

في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ... قال: فأخبرني عن الإيمان؟، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ... ثم انطلق، فلبثت ملياً، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".

وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ ‌بِقَدَرٍ}.

فعقيدة "الإيمان بالقضاء والقدر" من أركان الإيمان الستة التي يجب اعتقادها عند كل مؤمن، فقد أخبرنا الله تعالى أنه قدَّر المقادير كلها، فمن لم بواحدة منها فقد حبط عمله؛ يقول الله تعالى: {‌وَمَنْ ‌يَكْفُرْ ‌بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

والقدر: مصدر قَدَّرْتُ الشيء: إذا أحطت بمقداره، والمراد هنا: تعلق علم الله بالكائنات، وإرادته لها أزلاً قبل وجودها؛ فلا يحدث شيء إلا وقد علمه الله وقدره وأراده.

ومذهب أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالقدر خيره وشره.

للإيمان بالقضاء والقدر ثمرات:

فمن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: طمأنينة القلب وارتياحه، وعدم القلق في هذه الحياة عندما يتعرض الإنسان لمشاق هذه الحياة وشاهدها المؤلمة؛ لأن العبد علِمَ أن ما يصيبه فهو مقدر لا بد منه ولا رادَّ له، واستشعر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"؛ فإنه عند ذلك تسكن نفسه ويطمئن باله؛ بخلاف من لا يؤمن بالقضاء والقدر؛ فإنه تأخذه الهموم والأحزان، ويزعجه القلق، حتى يتبرم من الحياة، ويحاول الخلاص منها، ولو بالانتحال.

قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}

فأخبر سبحانه أنه قدر ما يجري من المصائب وفي الأنفس؛ فهو مقدر ومكتوب، لا بد من وقوعه، مهما حاولنا دفعه، ثم بيَّن أن الحكمة من إخباره لنا بذلك لأجل أن نطمئن؛ فلا نجزع ونأسف عند المصائب، ولا نفرح عند حصول النعم فرحا ينسينا العواقب، بل الواجب علينا الصبر عند المصائب، وعدم اليأس من روح الله، والشكر عند الرخاء، وعدم الأمن من مكر الله ونكون مرتبطين بالله في الحالتين.

ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الثبات عند مواجهة الأزمات، واستقبال مشاق الحياة بقلب ثابت ويقين صادق لا تزلزله الأحداث ولا تهزه الأعاصير؛ لأنه يعلم أن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان وتقلب؛ كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.

ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر تحويل المحن إلى منح والمصائب إلى أجر؛ كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ‌يَهْدِ ‌قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم".

 

هذا والله تعالى أعلى وأعلم ..

 

والحمد لله رب العالمين



[1] [شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص39)]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق