الثلاثاء، 8 فبراير 2022

سورةٌ وجيزةٌ بليغة


سورةٌ وجيزةٌ بليغة


لقد أنزل الله جل جلاله هذا القرآن العظيم ليكون نوراً وهداية للبشرية جمعاء، فمن تمسك به نجا ومن تركه ضل، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.

وتحدى الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن العظيم، فقال تعالى:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ‌ظَهِيرًا}

فعجزوا، فأنزل التحدي إلى عشر سور، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا ‌بِعَشْرِ ‌سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

فلم يستطيعوا، فأنزل التحدي إلى سورة واحدة، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا ‌بِسُورَةٍ ‌مِنْ ‌مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

فما استطاعوا ولن يستطيعوا إلى أبد الآبدين.

ومن أعظم سور القرآن التي قَلَّتْ ألفاظها وكثرت معانيها سورة العصر، سورة من ثلاث آيات، وفيها من العظات والأحكام والبينات الشيء الكثير:

{وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)}

وقد حاول بعض السفهاء أن يأتي بمثلها فصار أضحوكة إلى يومنا هذا؛ ذكروا أن عمرو بن العاص وَفَدَ على مسيلمة الكذاب -لعنه الله- وذلك بعد ما بُعث رسول الله ﷺ وقبل أن يُسْلِمَ عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ قال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ فقال: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علَيَّ مثلُها !

فقال له عمرو: وما هو؟!

فقال: (يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حَقْرٌ نَقْرٌ). ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟

فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب!!

قال الإمام ابن كثير بعد إيراده هذه القصة: " فأراد مُسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن، فلم يَرُجْ ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان".

* * *

تفسير هذه السورة

قوله تعالى {وَالْعَصْرِ} المراد بالعصر هو الزَّمان، أَقْسَمَ الله تعالى به لِمَا يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتَقَلُّبات الأمور، ومُداولة الأيام بين الناس، فهو عبرة لمن اعتبر وموعظة لمن اتعظ، والواو: حرف قسَم.

تنبيه: الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته لتنبيه المكلفين على ما فيه من الأدلة الباهرة على وحدانيته، وعظيم صنعه سبحانه، ولا يجوز للعبد أن يقسم إلا بالله؛ فإن القسم بغير الله شرك، أخرج أبو داود أن ابنَ عمرَ سمع رجلًا يحلفُ: "لا والكعبةِ" فقالَ لَه ابنُ عمرَ: إنِّي سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: "من حلفَ بغيرِ اللَّهِ فقد أشرَك"[1]، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ، ومَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ" أخرجه البخاري[2].

جواب القسم: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}؛ أَقْسَمَ قَسَمًا على حال الإنسان أنَّه في خُسْر؛ أي: في خُسرانٍ ونُقْصانٍ في كلِّ أحواله في الدنيا وفي الآخرة إلَّا مَن استثنى اللَّهُ عز وجل، فقد استثنى مَن اتصف بأربع صفات:

{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

1- الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به.

2- والعمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة.

3- والتواصي بالحق، والحق هو: الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه.

4- والتواصي بالصبر على:

أ- طاعة الله.           ب-وعن معصية الله.           ج-وعلى أقدار الله المؤلمة.

قال الإمام السعدي -رحمه الله-: "فبالأمرين الأولين، يَكْمُلُ الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يُكَمِّلُ غيرَه، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم".

من أجل ذلك قال الشافعي -رحمه الله-: "لو تَدَبَّرَ الناسُ هذه السورةَ لَـوَسِعَتْهُم".

وقد كان الصحابة يولون هذه السورة عناية فائقة، فقد ذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن حصن -أبي مدينة-، قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله ﷺ إذا الْتَقَيَا، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدُهما على الآخر "سورة العصر" إلى آخرها، ثم يُسَلِّمُ أحدهما على الآخر. وصححه الألباني[3].

قال جمال الدين القاسمي: وقد يظن الناس أن ذلك كان للتبرك، وهو خطأ؛ وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها، خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ حتى يجتلب منه قبل التفرق، وصية خير لو كانت عنده. 

* * *

فينبغي على المسلم أن يقرأ تفاسير كتاب الله تعالى، ويتدبر كتابه تدبرا جيداً، حتى تتكشف أمامه تلك الكنوز العظيمة، لا سيما قصار السور فإن فيها من التثبيت ما الله به عليم، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ الـمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ" أخرجه البخاري[4].

والمراد بــــ المفصل: من سورة "ق" إلى آخر القرآن على الصحيح، وسمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة. قاله ابن حجر[5].

 

والحمد لله رب العالمين



[1] رقم الحديث 3251 وصححه الألباني.

[2] رقم 6108

[3] في "السلسلة الصحيحة" (2648)

[4] رقم (4993)

[5] فتح الباري" (2/259)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق