الجمعة، 22 يوليو 2022

العفو والإعراض عن الجاهلين

العفو والإعراض عن الجاهلين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..

أخرج أبو داود في السنن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "‌إنّ ‌الله ‌خَلَق ‌آدمَ ‌مِن ‌قبضةٍ ‌قبضها ‌من ‌جميعِ ‌الأرضِ، فجاءَ بنو آدَمَ على قَدْرِ الأرض: جاء منهم الأحمرُ، والأبيضُ، والأسودُ، وبين ذلك، والسَّهلُ، والحَزْنُ[1]، والخبيثُ، والطَّيِّبُ، وبين ذلك"[2].

يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن طبيعة تركيبة الناس، الجسمانية، والنفسية، وأنهم متفاوتون في ذلك؛ فكما يرى البصر اختلاف الناس في ألوانهم وأشكالهم، فلتُدرك البَصيرة اختلافَ باطنهم كذلك.

صحيح أن الإنسان لا يُحاسب على صورته وشكله، ولكنه محاسب على باطنه وقصده؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ"[3].

صحيح أن الله تعالى هو الذي قدر علينا الأشكال والطِّباع؛ إلا أنه أمرنا بتطهير باطننا وتزكية نفوسنا؛ لأن هذا من أنواع الابتلاء؛ قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ ‌دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10]

أما تغيير الشكل بعمليات التجميل -من غير ضرورة- فهذا أمر الشيطان وليس أمر الرحمن، قال تعالى عن الشيطان: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: 119]

فإذا عُلم ما سبق ... فلا تعجب إن صادفت في حياتك أنواعاً من الناس خبيثةٌ أخلاقهم، جافيةٌ طباعهم، وعليك بهدي القرآن، وسنة النبي العدنان في معاملة أولئك الطَّغَام.

يقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلينَ} [الأعراف: 199]

أي: اِقْبَلْ من الناس ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، ولا تكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا، وأْمر بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل، وأعرض عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة الأغبياء، ولا تقابلهم بجهلهم، فمن آذاك فلا تؤذه، ومَن حَرَمَكَ فلا تَحْرِمْه.

وتجاوز عن المقولات الجارحة، والأفعال التافهة .. {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وهو الإعْراضُ الخالِي مِن جَزَعٍ وفُحْشٍ.

واطلب الثواب على صبرك واحتمالك من الله سبحانه؛ لأنه أمرنا بذلك، وهو المجازي عليه، قال جل شأنه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ألَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النور: 22] فإن كنت ترجو مغفرة الله تعالى، وتحب عفوه سبحانه فعامل الناس بما تحب أن تُعامَل.

في الصحيحين عن أمِّنا عائشة رضي الله عنها: أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم: هَلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أشَدُّ مَا لَقيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْني إِلَى مَا أرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأنا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إِلَاّ وأنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبريلُ - عليه السلام - فَنَادَاني 

فَقَالَ: إنَّ الله تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَد بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بمَا شِئْتَ فِيهِمْ.

فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ قَدْ سَمِع قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأنا مَلَكُ الجِبال، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبِّي إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إنْ شئْتَ أطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ.

فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم: بَلْ أرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»[4].

«الأخْشَبَان»: الجَبَلان الـمُحيطان بمكَّة.

هذا هو خُلُق الأنبياء، وطبائع المقربين الأصفياء، أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قَالَ: كأني أنظر إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنبياءِ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُه عَلَيْهِمْ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» متفقٌ عَلَيْهِ.

فلا تعجب إذاً عندما تسمع حديث عائشة رضي الله عنها وهي تقول: "مَا ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأةً وَلَا خَادِمًا، إِلَاّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَاّ أن يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ تَعَالَى، فَيَنْتَقِمُ للهِ تَعَالَى" رواه مسلم[5].

ويخبرنا خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه عن عجيب حلمه، وجميل صُنعه عليه الصلاة والسلام، فيقول:

"كُنْتُ أمشي مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أعْرَابِيٌّ فَجَبذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُر لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بعطاء". متفقٌ عَلَيْهِ

قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّديدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» متفقٌ عَلَيْهِ.

اللهم اهدنا لِأحسَنِ الأخلاقِ لا يهدي لِأحسَنِها إلَّا أنتَ، واصرِفْ عنّا سيِّئَها لا يصرِفُ عنّا سيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.

 

اللهم آمين



[1] السَّهلُ: أي: اللَّيِّن الرَّفِيق، والحَزْنُ: وغَلِيظ الطَّبْع الجَافِي العَنِيف.

[2] أخرجه أبو داود (4693) وصححه الألباني.

[3] أخرجه مسلم (2564).

[4] أخرجه: البخاري (3231)، ومسلم (1795)، (111).

[5] أخرجه في الصحيح برقم: (2328)

هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا

    ردحذف