الجمعة، 28 مارس 2025

شرح (سر على مهلك) 3

 

هذه نفسك قد أهملتها

وعلى فعل الدُّنى ربيتها

كم لذِيذًا سالفًا غذيتها

(إن أهنا عيشة قضَّيتها)

(ذهبت لذّاتها والإِثمُ حلّ)

قال: (هذه نفسك قد أهملتها) وإهمال النفس يكون بترك ما ينفعها من فعل الخيرات، كطلب العلم، والحرص على الطاعات، واستغلال الأوقات، يقول: كل ذلك لم يكن منك، بل آثرت الكسل والدعة والمباحات فيما لا يعود عليك بالنفع.

بل تجاوز الأمر المباحات، فصرت: (على فعل الدُّنى ربيتها) أي: ربيت نفسك على الأمور الدنيئة، وأبعدتها عن معالي الأمور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كريمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ ويُحِبُّ معَالِي الأَخْلاقَ، ويَكْرَهُ ‌سَفْسَافَها"[1]، أَي: رديئها وحقيرها.

ومن الأمور الدنيئة: فعل ما يضع من قدر المرء، مثل: المجون، وهي البَذاءة وقِلَّة الحَياء، يُقَال: "يُفْسد الرجلَ ‌المجونُ كَمَا يُفْسد الماءَ الأجونُ"، أي: إذا تغير طعمه أو لونه أو رائحته بطول المكث.

قال: (كم لذِيذًا سالفًا غذيتها) كم هنا استفهامية؛ لأن مفردها منصوب، قال الحريري:

وكمْ إِذا جِئْتَ بهَا مُستَفهِمَا

فانصِبْ وقُلْ: كمْ كوكبًا تَحوي السَّمَا

يتساءل الناظم عن الملذات المحرمة التي نلتَها واستمتعتَ بلذتها، كم مرة كررتها وفعلتها؟! ويريد أنك أوقعت نفسك في كثير من الملذات المحرمة، لذلك قال بعدها مُرهِّباً ومذكراً:

(إن أهنا عيشة قضَّيتها .. ذهبت لذّاتها والإِثمُ حلّ) يعني: أنَّ أطيبَ وأحلى وألَذَّ معصية تمتعت بها، وقضيت وقتاً في التقلب فيها .. ذهبتْ ومرَّتْ وسرعان ما انقضتْ لذتها؛ (والإثمُ حَلْ) أي : ثبت عليك في صحيفة عملك.

قال تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ أي: مَن يعمل منكم عملًا سيئًا يجازَ به يوم القيامة، ما لم يتب.

فالعاقل يجعل الآخرة نصب عينيه، ولا يُقْدِم على أمرٍ يضره في الآخر ولو أحبه، قال الإمام أحمد: "الفُتُوَّةُ: تركُ ما تهوى لما تخشى".

وينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:

تفنى اللَذاذَةُ مِمَّن نالَ صَفوَتَها

مِنَ الحَرامِ وَيَبقى الإِثمُ وَالعارُ

تُبقي عَواقِبَ سوءٍ في مَغَبَّتِها

لا خَيرَ في لَذَةٍ مِن بَعدِها النارُ

وقال الحسين بن مُطير:

ونَفْسَكَ أكرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ

فما لك نفسٌ بعدها تستعيرُها

ولا تقرَبِ المَرْعى الحرام فإنَّما

حلاوتُه تَفْنَى ويبقى مَريرُها

ومما ورد في كف النفس عن الشهوة بعد التمكن منها مخافةَ الآخرة، ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر في الثلاثة الذين "أووا إلى غارٍ في الجبل، فانحطَّتْ عليهم صخرةٌ من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظرُوا أعمالًا صالحة عملتُمُوها، فادْعوا الله بها ... وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنةُ عمٍّ فأحببتُها كأشدِّ ما يُحبُّ الرِّجالُ النِّساءَ، فطلبتُ إليها نفسها، فامتنعت مني، حتى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ (أي: سنة مجاعة)، فجاءتني [محتاجة] فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ ‌الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتركتُ الذَّهبَ الذي أعطيتها .. اللهم إن كنتُ فعلتُ ابتغاء وجهك، فَافْرُجْ عَنَّا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة".



[1] أخرجه الطبراني والحاكم، وانظر: الجامع الصغير وزيادته: ‌‌2682

الأربعاء، 19 مارس 2025

شرح (سر على مهلك) 2

إن تذكرْتَ أويقاتِ الصِّبا

أو تُقِسْ ريحَ الدّبُور بالصَّبا

فاترك القول لِوَقْتٍ ذهبا

(ودَع الذكرى لأيام الصِّبا)

(فلأيام الصبا نَجمٌ أفلْ)

قوله: ‌أُوَيْقات: تصغير جمع القلة: أوقات، و‌الصِّبَا: الصِغَر وحداثة السن.

وقوله: (ريحَ الدّبُور بالصَّبا) ريح الدبور: هي ريحٌ تهب من المغرب، وتقابل القَبُول وَهِي ريح ‌الصَّبَا التي تهب من المشرق.

والمعنى: إن خطرت ببالك -في أيام تقدمك بالعمر- ذكرياتُ أيام صِباك وما كان فيها من لهو وغفلة، فلا تلتفت إليها، فحالك الآن يختلف عن حالك أيام الطيش والشهوة الجامحة والغفلة وقلة التجربة، فأنت الآن قد سكنت شهوتك، وازدادت حكمتك، وكثرت تجاربك، فلا تكن كمن يقيس حالتين مختلفتين، كمن يقيس ريح الدبور، بريح الصبا.

قال الإلبيري:

‌وَيَقْبُحُ ‌بَالْفَتَى ‌فِعْلُ التَّصَابِي

وَأَقْبَحُ منه شَيْخُ قَدْ تَفَتَّى

قال الفيّوميّ -رحمه الله-: "الريح أربع: الشمال، وتأتي من ناحية الشام، وهي حارّةٌ في الصيف، بارحٌ[1]، والجنوب تقابلها، وهي الريح اليمانية، والثالثة: الصَّبا، وتأتي من مطلع الشمس، وهي القَبُول أيضاً، والرابعة: الدَّبُور، وتأتي من ناحية المغرب"[2].

ومن صفات ريح الصَّبا: أنها تأتي من ناحية الشرق وتتجه غرباً، وهي رياح معتدلة، تهب في وقت السَّحَر وأول النهار، وعندما تهب أول النهار تكون مائلة إلى البرودة، وقد أكثر الشعراء من ذكرها في أشعارهم.

ومن صفات ريح الدبور -وهي الغربية-: وهي الريح العقيم لأنها لا تلقح الشجر، وتهدم البنيان، وتقلع الأشجار، وهي مذمومة في القرآن العظيم، وهي التي تقابل الصبا، سميت بذلك لأنها تأتي من دبر الكعبة.

وقد نصر الله تعالى نبيه والمؤمنين بريح الصبا في غزوة الأحزاب، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9]، قال مجاهد بن جبر: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا} قال: "يعني: ريح الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم على أفواهها، ونزعت فَساطِيطَهم حتى أظعَنتْهم"[3].

وفي الحديث: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَاد بِالدَّبُورِ"، متفق عليه.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ومن لطيف المناسبة كون القَبُول نَصَرت أهل القَبول، وكون الدَّبُور أهلكت أهل الإدبار".

قال: (فاترك القول لِوَقْتٍ ذهبا ... ودَع الذكرى لأيام الصِّبا .. فلأيام الصبا نَجمٌ أفلْ) أي: ينبغي لك عدمُ التذكر لأيام الصبا التي وقعت فيها الذنوب والخطايا، وقد مرَّت كأنَّها طيف خيالٍ، أو نجمٌ أفل؛ أي: غاب؛ لأنه ليس في ذِكْر تلك الأيام إلا التفاخرُ بالمعصية، وقد قيل: إنَّ التحدُّثَ بالمعصيةِ والسرورَ بها يزيدُ في الإثم، كما أنَّ التحدُّثَ بالنعمة والسرورَ بها يزيدُ في الأجر؛ قال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم : "‌كُلُّ ‌أُمَّتِي ‌مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ" متفق عليه[4].

في السُنن بإسناد حسن من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهما: قال: كان رجلٌ يقالُ له: مَرْثَدُ بنُ أَبي مرثَدٍ [الغنوي]، وكان رجلاً يَحمل الأُسَراءَ من مكة، حتى يأتِيَ بهم المدينة، قال: وكانت امرأَةٌ بَغِيٌّ بمكة، يقال لها: ‌عَنَاقُ، وكانت صَديقَةً له، وإنه كان وَعَدَ رجلاً من أُسَارَى مكةَ يحمله.

قال مرثد: فجئتُ حتى انتهيتُ إلى ظِلِّ حائطٍ من حَوائط مكة، في ليلةٍ مُقْمِرَةٍ، قال: فجاءت ‌عَناقُ، فأبْصَرَتْ سوادَ ظِلِّي بجنْبِ الحائطِ، فلما انْتَهتْ إليَّ عَرَفَتْني، فقالت: مَرْثَدُ؟! فقلت: مرثد، فقالت: مَرْحباً وأهلاً، هَلُمَّ فبِتْ عندنا، قال: قلتُ: يا ‌عناق: حَرَّمَ الله ‌الزنا، قالت: يا أهلَ الخِيام، هذا الرجلُ يحمل أُسْراءكُمْ!

قال: فَتبِعَني ثمانيةٌ، وسَلَكْتُ الْخَنْدَمَةَ[5]، فانتهيتُ إلى غارٍ، أَو كَهْفٍ، فدخلتُ، فجاءوا حتَّى قامُوا على رأْسِي، فَبَالُوا، فَظلَّ بَوْلُهُمْ على رأسي، وعَمَّاهُم الله عَنِّي، قال: ثم رجعوا، ورجعتُ إلى صاحِبي، فَحمَلْتُهُ وكانَ رجلاً ثقيلاً حتى انتهيتُ إلى الإذْخِرِ، ففكَكْتُ عنه أَكْبُلَهُ، فجعلتُ أَحملُه، ويُعْيِيني[6] حتى قَدِمتُ المدينةَ، فأتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أأَنْكِحُ ‌عناقَ؟ فأمْسَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلم يَرُدَّ شيئاً، حتى نزلت {الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيةً أَو مُشْركَةً والزانيةُ لا ينكحُها إِلّا زانٍ أو مُشْركٌ} [النور: 3] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مَرْثَدُ {الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيةً أَو مُشْركَة والزانيةُ لا ينكحُها إِلّا زانٍ أو مُشْركٌ} فلا تَنْكِحْها.

فانظر كيف حاولت عناق أن تذكر مرثد بأيام الجاهلية، وكيف كفَّ مرثد عن طلبها وقال: "حرم الله الزنا"، وفي الحديث: "‌سَبْعَةٌ ‌يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ... وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ..." متفق عليه.



[1] أي الشمالية: حاملة للتراب.

[2] "المصباح المنير" 1/ 244.

[3] موسوعة التفسير المأثور (17/ 672).

[4] فتح الرحيم الرحمن ص53.

[5] جبل بمكة، أي: سلك طريق الخندمة.

[6] من الإعياء، وهو الكلال والتعب. 

الثلاثاء، 18 مارس 2025

وداعاً أبا إسحاق

وداعاً أبا إسحاق


لا يختلف العقلاء بأن العلماء الربانيين هم ورثة الأنبياء، وأن الله تعالى يحفظ بهم الدين، فهُم الذين يجددون ما اندرس منه، ويحيون بالوحي قلوب الغافلين؛ تعليماً وإرشاداً وتوجيها، فهُم الذين يقسمون ميراث الأنبياء؛ مَرَّ أبو هريرة بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: "يَا أَهْلَ ‌السُّوقِ، مَا أَعْجَزَكُمْ! قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: "ذَاكَ ‌مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَاهُنَا لَا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ" قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ! فَخَرَجُوا سِرَاعًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ! فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟ قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم![1]

وفَقْدُ العلماء من أعظم المصائب التي تحل في الديار؛ فنقصهم وفقدهم وموتهم يعني أن العِلْمَ سينقص ويفقد ويموت، بل سيُحرَّف بعدهم عمداً أو جهلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ ‌انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" متفق عليه.

بل قال مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قال: نقصها موت العلماء.

من أجل ذلك كان سلفنا الصالح يعرفون قيمة العلماء، ويعرفون أن موتهم من أكبر المصائب، قال الحسن البصري: ‌"كَانُوا يَقُولُونَ: ‌مَوْتُ ‌الْعَالِمِ ‌ثلْمَةٌ ‌فِي ‌الْإِسْلَامِ، لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ"[2].

وقال هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ أَبُو الْعَلَاءِ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، ‌مَا ‌عَلَامَةُ ‌هَلَاكِ ‌النَّاسِ؟ قَالَ: إِذَا هَلَكَ عُلَمَاؤُهُمْ"[3].

وأنشد بعضه هذا المعنى فقال:

‌الأرَضُ ‌تَحْيَا ‌إِذَا ‌مَا ‌عَاشَ ‌عَالِمُهَا

مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ

كَالأرْضِ تَحْيَا إَذَا مَا الْغَيثُ حَلَّ بِهَا

وإِنْ أَبَى عَادَ في أَكْنَافِهَا الْتَلَفُ

 * * *

توفي اليوم الاثنين السابع عشر من شهر رمضان لعام 1446 للهجرة (17 مارس 2025)، المحدث العالم الواعظ الشيخ أبو إسحاق حجازي محمد شريف الحويني المصري، إثر وعكة صحية استدعت نقله إلى المستشفى، حيث فارق الحياة متأثرًا بحالته الحرجة.

مولده:

وُلد الشيخ أبو إسحاق في العاشر من يونيو عام 1956م، في قرية حُوَين بمحافظة كفر الشيخ بمصر، وسماه والدُه "حجازي" عند عودته من أداءِ فريضة الحج؛ من بلاد الحجاز، وتَكنَّى في بداية طلبه للعلم "بأبي الفضل" لتعلقه بالمحدث الحافظ ابن حجر، ثم اشتغل بكتب الإمام أبي إسحاق الشاطبي، فحُبِّبَت إليه كنيتُه، وتعلق بها أكثر لما علم أنها كنية الصحابي الجليل سعد بن أبي وقَّاص؛ فعُرفَ واشتَهَر بعد ذلك بين الناس بأبي إسحاق الحويني.

طلبه العلم ودراسته الجامعية:

عشق أبو إسحاق الحويني منذ صِغره اللغة العربية وآدابها، فكان يقرأ القصصَ الأدبية، والأشعار العربية، ثم حفظ القرآن على خاله عبد الحي زيَّان وكان متقنًا للقراءات، وحضر دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي في الفقه الشافعي، وحضر محاضرات الشيخ عبد الحميد كشك.

وفي المرحلة الجامعية التحقَ بجامعة عين شمس في كلية الألْسُن قسم اللغة الإسبانية، وكان الأول على دفعته في كل الأعوام -عدا العام الأخير كان الثاني-، إلا أن قلبه كان معلقاً بالحديث النبوي الشريف، فحتى مع دراسته اللغة الإسبانية كان يستزيد من علم الحديث، خاصةً من كتب الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني، فكان الشيخ أبو إسحاق الحويني -رحمه الله- يرى أن دراسته لكتاب الشيخ محمد ناصر الدين الألباني "السلسلة الضعيفة" مدَّة سنتين أيام دراسته الجامعية كانت أعظمَ فائدةً من كل سِني التحصيل العلمي الأُخرى.

وكان إلى جانب دراسته الجامعية وطلبه العلم يعمل في دكان "بقالة" صغيرة نهارًا، ويسهر ليلًا على مطالعة كتب الشيخ الألباني، وعكف طويلا في مكتبة المصطفى للاجتهاد في طلب العلم.

وبعد تخرجه من الجامعة حصل على بعثة دراسية لاستكمال تعليمه في إسبانيا، لكنه لم يستمرَّ طويلًا لكرهه المعيشة هناك.

رحلاته العلمية:

لشدة حبه للشيخ الألباني وإعجابه به سافر إلى المملكة الأردنية الهاشمية مرتين (1407هـ، 1410هــ) لطلب العلم على يد الشيخ الألباني رحمه الله، والشيخ أبو إسحاق يعتبر من أوائل طلبة الشيخ الألباني، ولكنَّ صحبته له لم تكن بالطويلة، ومع ذلك كان مستغلاً للرحلتين استغلالاً كبيراً، فقد سأله قرابة مئتي سؤال في الحديث وعلله وسائر أبواب الشريعة، وقد مدحه الشيخ الألباني حينما سئل عمن يخلفه في المنهج العلمي فبدأ بالشيخ مقبل بن هادي الوادعي، ثم بالشيخ أبي إسحاق الحويني.

وسافر إلى المملكة العربية السعودية والتقى بالشيخ صالح آل الشيخ، والشيخ ابن عثيمين، وتردَّد على المساجد والمجالس العلمية التي يقيمها العلماء والمشايخ.

أبرز مشايخه:

- الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، حضر دروسه بالجامع الكبير والمسجد الذي كان بجوار بيته بمدينة جُدَّة.

- الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، حضر دروسه بالمسجد الحرام.

- الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وهو أقرب مشايخه إلى قلبه، وقد تَتلْمَذ على يده وتأثَّر بكتبه وتحقيقاته الحديثية.

- الشيخ عبد الله بن قعود، حضر عنده شرح كتاب "البرهان في أصول الفقه" لإمام الحرمين الجُوَيني، وكان القارئ يومئذٍ الشيخ صالح آل الشيخ.

- الشيخ عبد الله بن جبرين.

- الشيخ محمد نجيب المُطيعي.

ثناء العلماء عليه:

أثنى عليه شيخه الإمام الألباني حين قال له: "صَحَّ لك ما لم يصحَّ لغيرك"، وأثنى عليه في مواضعَ متفرقةٍ من كتبه، ووصفه بـ "صديقنا الفاضل"، ووصفه أيضاً بأنه "من إخوانه الأقوياء في علم الحديث".

وأوصى به الشيخ عبد العزيز الراجحي، حين سأله سائلٌ: على مَن أطلب العلم في مصر؟ فأجابه: "على أبي إسحاق الحويني، الشيخ أبو إسحاق مُحدِّث، من علماء الحديث".

وقال الشيخ مشهور حسن آل سلمان قائلًا: "أشهد الله أن أبا إسحاق من علماء الحديث، ومن أهل الحديث الراسخين فيه، ولم أرَ شيخنا الألباني فرِحًا بأحدٍ كما رأيتُه فرحًا بقدوم الشيخ أبي إسحاق. ومجالسُهُ مع الشيخ الألباني محفوظة، تُنبِئُ عن علمٍ غزير، بل عن تدقيقٍ قلَّ أن يصلَ إليه أحد".

مؤلفاته:

ترك الشيخ أبو إسحاق الحويني أكثر من مائة مؤلَّف، وأبرزها:

1 - تخريج تفسير بن كثير

2 - الثمر الداني في الذب عن الألباني.

3 - تحقيق الديباج شرح صحيح مسلم للسيوطي.

4 - بذل الإحسان بتخريج سنن النسائي أبي عبد الرحمن.

5 - تحقيق الناسخ والمنسوخ لابن شاهين.

6 - مسيس الحاجة إلي تخريج سنن بن ماجة.

7 - اتحاف الناقم بوهم الذهبي والحاكم.

8 - النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة.

9 - تنبيه الهاجد إلي ما وقع من النظر في كتب الأماجد.

10 - شرح وتحقيق المغني عن الحفظ والكتاب بقولهم لم يصح شيء في هذا الباب.

وله كثير من الرسائل القصيرة، منها:

1 - سمط الآلي في الرد علي الغزالي.

2 - صحيح القصص النبوي.

3 - تحقيق فضائل فاطمة لابن شاهين.

4 - كشف المخبوء بثبوت حديث التسمية عند الوضوء.

5 - نهي الصحبة عن النزول بالركبة

وكان الشيخ أبو إسحاق الحويني -إلى جانب تأليفه- من المجتهدين في الدعوة الي الله عز وجل لإرشاد الناس إلي دين الله رب العالمين، فكثرت دروسه ومحاضراته على القنوات التلفزيونية والشبكة العنكبوتية.

فكان يخطب في مسجد ابن تيمية بمدينة كفر الشيخ، ويلقي كلَّ يوم اثنين بين المغرب والعشاء محاضرة فيه، وظهر في قناة الندى الفضائية -التي رأسَ لجنتها العلمية- في برنامج "أصداف اللؤلؤ"، وقدَّم برنامج "فضفضة" على قناة الناس الفضائية.

فرِحمَ اللهُ الشيخَ أبا إسحاق الحويني، وأنزله منازل الصالحين، وجزاه خيراً عن الإسلام والمسلمين.



[1] المعجم الأوسط للطبراني (2/ 114): 1429

[2] الزهد لأحمد بن حنبل (ص212): 1473.

[3] مصنف ابن أبي شيبة (21/ 226 ت الشثري): 39989

الأحد، 16 مارس 2025

شرح (سر على مهلك) 1

التخميس فن من فنون البلاغة، ومن المحسنات الشعرية، وهو: أن تعمد إلى بيت فتقدم عليه ثلاثة أشطر على قافية الشطر الأول.

كالذي قام به الشَّيخ القاضي الفقيه العلَّامة الفَرَضي الفلكي الأديب الشَّاعر محمَّد بن العلَّامة القاضي عبد اللطيف بن محمود بن عبد الرَّحمن آل محمود، البحريني، الشَّافعي المتوفى (1390هـ) في تخميسه على لامية ابن الوردي‌، قال:

‌‌سِرْ على مَهلِك يا من قد عقل

واجتهد في الخير قولاً وعمل

وإذا ما شئت تسمو وتجلّ

(اعتزل ذكرَ الغواني والغزلْ)

(وقلِ الفصلَ وجانبْ مَن هزلْ)

ابتدأ الشاعر في مطلع قصيدته بعدة توجيهات ونصائح، فقال: 

‌‌- (سِرْ على مَهلِك يا من قد عقل): حث في هذه النصيحةِ العقلاءَ على الاعتدال في المشي بسكينة وطمأنينة؛ كقوله تعالى عن وصية لقمان لولده: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ [لقمان: 19]، أي: تواضع في مشيتك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتَّئِدْ.

وكما قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: 63]، أي: يمشون على الأرض بحلم، وسكينة، وتواضع، ووقار، وعِفَّة، قال الحسن البصري: "الهون في كلام العرب: اللِّين، والسَّكينة، والوقار".

والعجلة والإسراع في المشي منهي عنه حتى لأجل إدراك الصلاة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ ‌وَعَلَيْكُمُ ‌السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"[1].

ورأى عمر بن الخطاب غلامًا يتبختر في مشيته، فقال: "إنّ البخترة مِشيةٌ تُكْرَه إلا في [الجهاد] سبيل الله، وقد مدح الله أقوامًا، فقال﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾، فاقصِد في مشيتك".

وسرعة المشي تُذْهِبُ بهاء المؤمن، وكثرة الالفات تخرم المروءة؛ قال إبراهيم النخعي: "ليس من المروءة ‌كثرة ‌الالتفات في الطريق، ولا سرعة المشي"[2].

وكان العقلاء يعرفون الأحمق بعدة علامات، منها: ‌كثرة ‌الالتفات، وسرعة الجواب، والثِّقة بكلّ أحد[3].

- قال الشاعر: (واجتهد في الخير قولاً وعمل) وهذه نصيحة ثمينة، يحث فيها على المثابرة والاستكثار من الأعمال الصالحة القولية، مثل: قراءة القرآن، وذكر الله تعالى، وتعليم الناس الخير، وإرشاد عامتهم لما فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذب عن دين الله تعالى، وتفنيد الشبهات المثارة حول الإسلام ... إلخ.

والأعمال الصالحة البدنية، مثل: الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والمعاونة في الخير، وإماطة الأذى عن الطريق ... إلخ.

ومن الآيات الدالة على الحث والاجتهاد في الأعمال والأقوال الصالحة قوله تعالى عن الصالحين: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 17-18]، فجمعوا في ليلهم بين العمل والقول؛ الصلاة والاستغفار.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة اجتهاداً عظيماً؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ ‌عَبْدًا ‌شَكُورًا"[4].

وكذلك أرشد عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى ذلك؛ فعن ربيعةَ بن كعب الأسلميَّ رضي الله عنه قال: كنتُ أبيتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم آتيه بوَضوئه وبحاجته، فقال: "‌سلني" فقلت: مرافَقَتَك في الجنة، قال: "أو غيرَ ذلك" قلت: ‌هو ‌ذاك، قال: "فأعنِّي على نَفسِكَ بكثرةِ السُجود"[5].

وكان الصحابة يجتهدون في الخير حتى في السلام على الناس، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "إني لأغدو إلى ‌السوق، وما لي من ‌حاجة إلا أن أُسَلِّم ويُسَلَّم عَلَيَّ"[6].

- قال الشاعر: (وإذا ما شِئتَ تسمو وتُجلّ) أي: إن أردتَ أن يرتفع قدرك بين الورى، وتعظم في صدور الناس احتراماً ومهابة فـــــــ (اعتزل ذكرَ الغواني والغزلْ) أي: أترك ذكرَ الغواني مِنَ النساء؛ أي: المستغنِيات بحسنهنَّ وجمالهنَّ عنِ الزينة، فاتركِ التغزُّلَ فيهنَّ بالكلام الرقيق؛ لأنَّ التعلق بهنَّ يجرُّ إلى مفاسد كثيرة.

قال الأحنف بن قيس: ‌"جَنِّبُوا ‌مجالسَنا ‌ذِكْرَ النساء والطعام؛ فإني أبغض الرجل أن يكون وصَّافاً لفَرْجِهِ وبطنه"[7].

والفتنة بالنساء عظيمة، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، ‌وَاتَّقُوا ‌النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاء"[8]، فجعل النساء قسما مقابلاً للدنيا، بل بسببهن كانت أول فتنة بني إسرائيل.

وما أكثر الهلكى بسبب النساء وعشقهن، كمجنون ليلى، وعاشق اليمامة، والمخبَّل وميْلاء، وجميل بثينة، فمنهم مَن جُنَّ ومنهم مَن هلك، ومنهم مَن فسدت أعضاؤه!

قال ابن تيمية: "عشق الأجنبية فيه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو من الأمراض التي تُفسد دين صاحبها، ثم قد تفسد عقله ثم جسمه"[9].

وأهل الطِّب يجعلون العشق مرضاً دماغياً يتولد عن النظر والسماع[10]، لذلك سد الشرع هذين المنفذين، قال تعالى للنساء: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 32]، وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ [النور: 30] ، وقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور: 31] 

قال جرير بن عبد الله: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نَظَرِ الْفُجَاءَةِ، فأمرني أن ‌أصرف بصري"[11].

ولا يتمكن العشق من قلوب أهل التوحيد والمحبة لله، فبسبب فراغ القلب تمكن منه العشق، قال قيس بن الملوح:

أَتاني هَواها قَبلَ أَن أَعرِفَ الهَوى

فَصادَفَ قَلباً خالِياً فَتَمَكَّنا

وفي ذلك يقول شيخ الإٍسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا كان القلب محبا لله وحده مخلصا له الدين، لم يبتلِ بحب غيره أصلا، فضلا أن يُبتلى بالعشق، وحيث ابتُلي بالعشق، فلنقص محبته لله وحده؛ ولهذا لما كان يوسف محبا لله مخلصا له الدين، لم يبتل بذلك، بل قال تعالى : (كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ)، وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها، فلهذا ابتليت بالعشق"[12].

والوقاية خير من العلاج، كما قال الشاعر:

إِنَّ ‌السَّلَامَةَ ‌مِنْ ‌سَلْمَى ‌وَجَارَتهَا

أَنْ لَا تَمُرَّ بِوَادٍ قُربَ واديها

ولا يزال أعداء الدين منذ عهد جريج العابد ينصبون لأهل الإيمان حبائل الشيطان، من العاهرات والمتبرجات؛ لأن القضاء على أي أمة يكون بإفساد نسائها وشبابها!

قال تعالى متوعداً أولئك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19].

وشدد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر التبرج والعُري فقال: ‌"صِنْفَانِ ‌مِنْ ‌أَهْلِ ‌النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا"[13].

- قال الشاعر: (وقلِ الفصلَ وجانبْ مَن هزلْ) مراده: اتبعِ الحقَّ في الأقوال والأفعال، واجتنب الباطل فيهما، وهذا مقتبَسٌ من قوله تعالى : ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ [الطارق: 13-14] أي: باللعب، وقيل: بالباطل، ويطلق الهزل على ما يقع بين أراذل الناس مِنْ كلماتِ مضحكةٍ أو رقصٍ أو نحو ذلك ، ويقرُبُ منه ما يقع بين الناس مِنَ المزاح المبالغ فيه؛ فإنَّه منهيٌّ عنه قديماً وحديثاً، شرعاً وعرفاً[14].

أما المداعبة والمزاح المنضبط فلا بأس به؛ قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: "‌إِنِّي ‌لَا ‌أَقُولُ ‌إِلَّا ‌حَقًّا"[15].

أما غير ذلك فقد يجر إلى مفاسد، كإيغار الصدور وزرع العداوة وذهاب المروءة؛ فقد كتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى عماله: "امعنوا الناس من ‌المزاح، فإنه يذهب بالمروءة، ويوغر الصدور".

وبعض الفئات ينبغي تجنب المزاح معهم، كالصبيان والسفلة، قال محمد بن المنكدر: "قالت لي أمي: لا تمازح الصبيان تهن عندهم".

فخلاصة أمر المزاح أن يكون معتدلاً؛ كالملح في الطعام، إن كثر فسد، وإن قَلَّ فسد.



[1] صحيح مسلم (2/ 100): 602، أما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9] فليس المراد بالسعي ههنا ‌المشي ‌السريع، ‌وإنما ‌هو ‌الاهتمام ‌بها. تفسير ابن كثير - ط ابن الجوزي (7/ 275)، كذلك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم "إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ ‌مِنْ ‌صَبَبٍ"، معناه: "كان عنده نشاط وحركة وقوة، ولم يكن عنده كسل وخمول، ولم يكن معه جري وعدو فيؤثر ذلك عليه، ويكون غير لائق، وإنما كان على هذه الحالة التي هي وسط". شرح سنن أبي داود للعباد (553/ 9 بترقيم الشاملة آليا).

[2] عيون الأخبار (1/ 412).

[3] نهاية الأرب في فنون الأدب (3/ 355).

[4] صحيح البخاري (4/ 1830): 4557، صحيح مسلم (8/ 141): 2820

[5] سنن أبي داود (2/ 486 ت الأرنؤوط): 1320.

[6] شعب الإيمان (11/ 206 ط الرشد).

[7] تاريخ دمشق لابن عساكر (24/ 346).

[8] صحيح مسلم (8/ 89): 2742.

[9] مجموع الفتاوى (10/132)

[10] شرح لامية ابن الوردي، المسمى: فتح الرحمن الرحيم، للشريف مسعود القناوي الحسيني الشافعي، (ص46).

[11] صحيح مسلم (6/ 181): 2159.

[12] مجموع الفتاوى (10/135)

[13] صحيح مسلم (6/ 168): 2128.

[14] شرح لامية ابن الوردي ص51.

[15] مسند أحمد (14/ 185 ط الرسالة): 8481. وإسناده حسن.