الأربعاء، 29 يناير 2025

حديث: نية المؤمن خير من عمله

 (نية المرء خير من عمله)

هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

يروى هذا الحديث عن: سهل بن سعد، وأنس، وأبي موسى، والنواس بن سمعان.

أما حديث سهل بن سعد: فقد أخرجه الطبراني "في المعجم الكبير"،[1] من حديث: حاتم بن عباد بن دينار الحرشي، ثنا يحيى بن قيس الكندي، ثنا أبو حازم، عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نية المؤمن ‌خير ‌من ‌عمله ...".

وفيه: حاتم بن عباد: لا يُعرف حاله، ويحيى بن قيس الكندي: مجهول الحال[2].

وأما حديث أنس: فقد أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"[3]، من حديث: يوسف بن عطية الصفار، عن ثابت، عن أنس به.

ويوسف بن عطية الصفار: مُجمعٌ على ضعفه[4].

وأما حديث أبي موسى الأشعري: فقد أخرجه الديلمي في "مسنده"[5]، من حديث: أحمد بن عبد الله الهروي، عن أبي هريرة منصور بن يعقوب، عن سعيد [ابن أبي عروبة]، عن قتادة، عن أبي بردة، عن أبي موسى به مرفوعاً.

وأحمد بن عبد الله الهروي هو: الجويباري: وضَّاع[6].

وأما حديث النواس بن سمعان: فقد أخرجه القضاعي في "مسنده"[7]، من حديث: عثمان بن عبد الله الشامي، ثنا بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن النواس بن سمعان به.

و‌عثمان ‌بن ‌عبد ‌الله الشامي: يروي الموضوعات عن الثقات[8].

وبقية بن الوليد مدلس، قال ابن حجر: "كان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين، وصفه الائمة بذلك"[9]، بل كان يدلس تدليس التسوية، فلا يقبل العلماء حديثه إلا إذا صرّح بالتحديث، وقد عنعن هاهنا ولم يصرح.

وأخرجه الربيع بن حبيب في "مسنده"، قال الشيخ الألباني: "والربيع بن حبيب وهو: الفراهيدي البصري، إباضي مجهول، ليس له ذكر في كتب أئمتنا، ومسنده هذا هو "صحيح الإباضية"! وهو مليء بالأحاديث الواهية والمنكرة"[10].

وهو معارض للحديث الذي في الصحيح:

‏(فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ)

‏ففي الحديث أن العمل أبلغ من مجرد النية.



[1] المعجم الكبير للطبراني (6/ 185): 5942.

[2] تقريب التهذيب (ص595).

[3] شعب الإيمان (9/ 175 ط الرشد): 6445.

[4] لسان الميزان (9/ 456).

[5] زهر الفردوس (6/ 461): 2557.

[6] ميزان الاعتدال (1/ 106).

[7] مسند الشهاب (1/ 119): 148.

[8] ميزان الاعتدال (3/ 41).

[9] طبقات المدلسين = تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس (ص49).

[10] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (6/ 304).


الاثنين، 20 يناير 2025

طول العمر وحُسْنُ العمل

طول العمر وحُسْنُ العمل

ارتبط مفهوم عند بعض الناس أن الذي يكره الموت = غير مؤمن، أو على الأقل ضعيف الإيمان، وأن الذي يحب الحياة = يحب الشهوات والمعاصي، فهل هذا المفهوم صواب؟

لا شك أنه مفهوم خاطئ طبعاً، فكلنا يكره الموت، حتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الموت، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، أَحَبَّ ‌اللهُ ‌لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، كَرِهَ ‌اللهُ ‌لِقَاءَهُ"، فَأَكَبَّ الْقَوْمُ يَبْكُونَ، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكُمْ؟!" فَقَالُوا [الصحابة]: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِذَا حُضِرَ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ، أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، وَاللهُ لِلِقَائِهِ أَحَبُّ، {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} فَإِذَا بُشِّرَ بِذَلِكَ، يَكْرَهُ لِقَاءَ اللهِ، وَاللهُ لِلِقَائِهِ أَكْرَهُ"[1].

وفي حديث أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ ‌اللهُ ‌لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ ‌اللهُ ‌لِقَاءَهُ" قُلْنَا [الصحابة]: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ! قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ، جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللهِ، بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللهَ، فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ - أَوِ الْكَافِرَ - إِذَا حُضِرَ، جَاءَهُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ - أَوْ مَا يَلْقَى مِنَ الشَّرِّ - فَكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ"[2].

إذاً كراهية الموت ليس عيباً في المسلم ولا قدحاً في المؤمن، وفي المقابل: هل من ضير على المسلم أن يحب الحياة؟ الجواب فيه تفصيل:

1- إن كان يحب الحياة من أجل الاستكثار من المعاصي والآثام، فلا شك أنه قدح فيه.

2- وإن كان يحب الحياة من أجل التمتع بالمباحات، فهذا لا قدح ولا مدح.

3- أما إن كان يحب الحياة من أجل الاستزادة من الطاعات فهذا هو الموافق للشرع، الذي جاءت به النصوص.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِمَنْ طالَ عمرُهُ وحسُنَ عملُهُ"[3].

وفي حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيَّانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ"[4].

فأكمل الأحوال: أن يُحب المسلم طول الحياة حتى يستزيد من الأعمال الصالحة، ولا يضره كراهيته للموت ما دام حياً.

* * *

وحتى تتصور عظم فائدة البقاء على قيد الحياة في طاعة الله، أذكر لك حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أنَّ رَجُلَيْنِ من بَلِيٍّ قَدِما على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وكان إِسْلامُهُما جَمِيعًا، فكانَ أحدُهُما أَشَدَّ اجْتِهادًا مِنَ الآخَرِ، فَغَزَا المُجْتَهِدُ مِنْهُما فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بعدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ [وفاة طبيعية].

قال طلحةُ فَرأيْتُ في المنامِ بَيْنا أنا عندَ بابِ الجنةِ إذا أنا بِهما، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الجنةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنْهُما، ثُمَّ خرجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رجعَ إِلَيَّ فقال: ارْجِعْ فإنَّكَ لمْ يَأْنِ لكَ بَعْدُ.

فَأصبحَ طلحةُ يُحَدِّثُ بهِ الناسَ فَعَجِبُوا لِذلكَ، فَبَلَغَ ذلكَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وحَدَّثُوهُ الحَدِيثَ فقال: "من أَيِّ ذلكَ تَعْجَبُونَ؟!" فَقَالوا: يا رسولَ اللهِ هذا كان أَشَدَّ الرجلَيْنِ اجْتِهادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، ودخلَ هذا الآخِرُ الجنةَ قبلَهُ!

فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "أَليسَ قد مَكَثَ هذا بعدَهُ سَنَةً" قالوا: بلى، قال: "وأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصامَ وصلَّى كذا وكذا من سَجْدَةٍ في السَّنَةِ" قالوا: بلى، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "فما بينَهُما أَبْعَدُ مِمَّا بين السَّماءِ والأرضِ!"[5].

انظر كيف ارتفع هذا على صاحبه الشهيد، بسبب أن فسح الله له الأجل سنة واحدة.

بل قد يفوق المسلم غيره بعمل أسبوع واحد فقط!، فعن عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه قال: آخى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينَ رجُلينِ، فقُتِل أحدُهما [شهيداً]، ومات الآخَرُ بعدَه بجُمعةٍ أو نحوِها، فصَلَّيْنا عليه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما قُلتُم؟" فقلْنا: دعَوْنا له، وقلْنا: اللهمَّ اغفِرْ له، وأَلحِقْه بصاحِبِه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فأين صلاتُه بعدَ صلاتِه، وصومُه بعدَ صومِه وعملُه بعدَ عملِه؟ إنَّ بينَهما كما بينَ السماءِ والأرضِ!"[6].

فمن هذين الحديثين يتبين لك عظيم فائدة طول العمر في طاعة الله، فقد تتوب من ذب أو تدرك عملاً يدخلك الله به الجنة، وإياك ثم إياك أن تتمنى الموت بسبب ظروف دنيوية؛ كما يفعل مَن ضعف إيمانه وقَلَّ علمه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنَّينَّ أحدٌ منكمُ الموتَ؛ إمَّا محسنًا فلعلَّهُ أن يزدادَ خيرًا وإمَّا مسيئًا فلعلَّهُ أن يستعتبَ" رواه البخاري.

وإن كان داعياً لا محالة فليدعُ بما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ به، فإنْ كانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي" متفق عليه.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أطل أعمارنا في طاعتك، وتوفنا مسلمين.



[1] مسند أحمد (30/ 216 ط الرسالة): 18283، وإسناده حسن.

[2] مسند أحمد (19/ 103 ط الرسالة): 12047، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

[3] صحيح الجامع   3928

[4] مسند أحمد (29/ 226 ط الرسالة): 17680.

[5] أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني: 3185

[6] أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني.

الأحد، 19 يناير 2025

الطُّوَيـْجِن

الطُّوَيـْجِن


كم من عَلَمٍ من أعلام أمتنا غدا طي النسيان بين آكام الأسفار، أو في المخطوطات المتوارية عن الأنظار، ربما دُسَّ خبرُهم جهلاً .. أو عمدا، حتى لا يُتَّخَذوا فخراً ومجدا، رجالٌ لا تزيد معرفةِ خبرِهم القارئَ إلا همة، ولا السماع بسيرهم إلا عزة.

فهل طرق سمعَك في يومٍ من الأيام اسمُ: "الطويجن"؟!

أُخبرك أني عرفته بكل بساطة .. في ثنايا كتاب: "الإحاطة في أخبار غرناطة"، إن شئتَ أن ترى الطويجن أديباً .. رأيته، أو رحَّالةً .. وجدته، أو مهندساً .. صادفته .. فمن هو الطويجن هذا ؟!

هو: أبو إسحاق ‌‌إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الساحلي، المشهور بالطّويجن، الأديب، جوّاب الآفاق، من أهل غرناطة الغرّاء، كان فاضلا في عدّة فنون، ويكتب بالخطّ الموزون، مع كرم نفس، ونظم ونثر وحسن درس.

رحل بعد أن اشتهر فضله، وذاع أوجه، فشرّق وغرَّب، وجال في البلاد، فدخل قلوب الملوك والعباد، "شاهد البرابي والأهرام، ورمى بعزمته الشآم، فاحتلّ ثغوره المحوطة، ودخل دمشق، وتوجّه نحو الغوطة، ثم عاجلها بالعراق، فحيّا بالسّلام مدينة السّلام، وأورد بالرّافدين رواحله، ورأى اليمن وسواحله، ثم عدل إلى الحقيقة عن المجاز، وتوجّه إلى شأنه الحجاز، فاستلم الرّكن والحجر، وزار القبر الكريم لـمّا صَدَر، وتعرّف بمجتمع الوفود بملك السُّود، فغمره بإرفاده، وصحبه إلى بلاده".

تعرف على ملك مالي الصالح الشاب "منسا موسى" في الحج، فصاحبه إلى بلاد الزنج، فكانت له عند الملك مكانة عظيمة، فاستوطن بلاده مدة طويلة، بالِغاً فيها أقصى مبالغ الـمَكَنَة، والحظوة، والشّهرة، والجلالة، واقتنى مالاً دثارا، ومجداً سيّارا.

استعان الملك "منسا موسى" بهذا المهندس الأندلسي في بناء المساجد والقصور، والمساكن والدور، وإلى الطويجن يرجع الفضل في إدخال فن البناء بالآجر في غربي السودان، حتى غدت دُرة البلدان، وبنى في "تمبكتو" مسجدًا عظيما، وقصرا للملك كقصور الأندلس تصميما.

جامع تمبكتو اليوم بعد التعديلات التي دخلت عليه

وبعد هذا التجوال الشاق، حنَّ الطويجن إلى بلاد العشّاق، فكتب وقلمُه يسيل، بمشاعر قلبه العليل: " .. وحسبي أن أصِفَ ما أُعانيه من الشّوق، وما أجده من التَّوق، وأعلّل نفسي بلقائهم، وأتعلّل بالنّسيم الوارد من تلقائهم، وإنْ جَلاني الدهرُ عن وُرُودِ حَوْضِهم، وأقعدني الزمانُ عن اجتناءِ رَوْضِهم، فما ذهب ودادي، ولا تغيّر اعتقادي ..

بلادٌ بها نِيطَتْ عَلَيَّ تمائِمي        وأوَّلُ أرضٍ مَسَّ جِلْدي تُرابَـها

وكلما اقترب من بلاده أنشد قائلاً ..

                 وأَبْرَحُ ما يكونُ الشوقُ يوماً       إذا دَنَتِ الدّيارُ منَ الديارِ

فتاخمَ بلاد الأحبابِ بمراكش، فما راقت له وألفاها أرضَ معاطش، فطوى رحله عائداً إلى مالي؛ بلادِ الأماني، فاستقرّ بها على حاله من الجاه والشّهرة، حتى وافته المنيةُ قرب مسجده المزهو، في مدينة تمبكتو (747 هـ).

فرحم الله الطويجن؛ أبا إسحاق ‌‌إبراهيم بن محمد الغرناطي .. وأجزل له في الآخرة المعاطي ..

 

الجمعة، 10 يناير 2025

الخطيب .. ثابت بن قيس

 الخطيب .. ثابت بن قيس

إن من عقيدتنا أننا نحبُّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا نُفْرِط في حب واحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر، ونفاق، وطغيان.

فالصحابة هم الواسطة بين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبين أمَّته، فمنهم تَلَقَّتِ الأمَّة عنه الشريعة، وكانت على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة، نشروا الفضائل بين هذه الأمة: من الصدق والنصح والأخلاق والآداب، التي لا توجد عند غيرهم.

قال تعالى مُثنيًا عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}.

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».

* * *

وسأحدثكم عن صحابي جليل قد لا يعرفه كثير من الناس اليوم، ألا وهو: ثابت بن قيس بن شمّاس بن زهير الخزرجي الأنصاري، صاحب الصوت الجهوري، خطيب الأنصار "المتحدث الرسمي" إن صحَّ التعبير؛ عن أنس قال: خطب ثابت بن قيس مقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا؟ قال: «الجنّة»، قالوا: رضينا.

ثم صار خطيباً للنبي صلى الله عليه وسلم.

وأول مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت غزوة أحد، ثم شهد ما بعدها من المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام كما في التّرمذيّ بإسناد حسن فقال: «نِعْمَ ‌الرَّجلُ ‌ثابتُ ‌بن ‌قَيْس بن شَمَّاس».

ثابت بن قيس له عدة فضائل:

الفضيلة الأولى: كان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فعن جابر قال: جاءت بنو تميم فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زَيْنٌ، وذمَّنا شَيْنٌ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "إِنَّمَا ذَلِكُمُ اللَّهُ الَّذِي مَدْحُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ"، فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لِنُشَاعِرَكَ وَنُفَاخِرَكَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا بِالشِّعْرِ بُعِثْتُ وَلَا بِالْفِخَارِ أُمِرْتُ، وَلَكِنْ هَاتُوا"، فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: "قم فأجبه"، فأجابه، وقام شاعرهم فذكر أبياتا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "أجبه" فأجابه.

فقام الأقرع بن حابس، فقال: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمُؤْتًى لَهُ[1]، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ، تكلم خطيبنا فكان خَطِيبُهُمْ أَحْسَنَ قولاً، وتكلم شاعرُنا فَكَانَ شَاعِرُهُمْ أَشْعَرَ وَأَحْسَنَ قولاً، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ... ثم أسلم وفد بني تميم جميعاً.

الفضيلة الثانية: بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة:

عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهل الجنة".

وفي رواية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟" فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، ولا أرفع صوتي أبدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.

الفضيلة الثالثة: استشهاده في سبيل الله:

بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد أكثر العرب، فقامت حروب الردة في عهد أبي بكر الصديق، بقيادة خالد بن الوليد، وكان من أشد معارك حروب الردة معركة اليمامة، حين ارتدت قبلية بني حنيفة وادعى مسيلمة الكذاب النبوة، فاستشهد كثير من الصحابة والتابعين، وانكشف كثير منهم.

فعن أنس قال: لما انكشف الناسُ يومَ اليمامة قلت لثابت بن قيس: ألا ترى يا عم، ووجدته يتحنّط[2]، فقال: ما هكذا كنّا نقاتل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بئس ما عوّدتم أقرانكم، اللَّهمّ إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قتل شهيداً ... فصدقت بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له.

الفضيلة الرابعة: أُجيزت وصيته بعد موته:

وكان عليه درع نفيسة، فمرّ به رجل مسلم فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه، فقال: إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيّعه، إني لما قتلت أخذ درعي فلان، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس تستنّ وقد كفأ على الدرع برمة، وفوقها رحل، فائت خالدا فمره فليأخذها، وليقل لأبي بكر: إنّ عليّ من الدّين كذا وكذا، وفلان عتيق.

فاستيقظ الرجل، فأتى خالدا، فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيته.

قال الإمام مالك: لا أعلم وصيةً أُجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه!

* * *

رضي الله عن ثابت بن قيس، وعن سائر الصحابة الكرام البررة، وجمعنا الله تعالى وإياهم في مستقر رحمته، بصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام في الفردوس الأعلى .. آمين آمين آمين.



[1] يعني: مؤيدٌ من الله عز وجل.

[2] يعني: يتطيّب بالكافور ونحوه من الطِّيب.