الاثنين، 27 مايو 2024

حديث: ما أصر من استغفر ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة

"ما أصر من استغفر ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة"


هذا الحديث أخرجه أبو داود في "سننه"[1]، والترمذي في "سننه"[2]، والبزار في "مسنده"[3]، من حديث: عثمان بن واقد العمري، عن أبي نصيرة، عن مولى لأبي بكر الصديق، عن أبي بكر الصديق به.

وسكت عنه أبو داود، وقد قال في رسالته لأهل مكة: "كل ما سكتُّ عنه فهو: صالح".

وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نصيرة، وليس إسناده بالقوي".

وقال البزار: وهذا الحديث لا نحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه إلا عن أبي بكر بهذا الطريق، وأبو نصيرة ‌ومولى ‌أبي ‌بكر ‌فلا ‌يُعرفان.

قلت: عثمان بن واقد، وثقه ابن معين، وقال ابن حجر: "صدوق، ربما وهم"، ومولى أبي بكر: مجهول.

أما أبو نصيرة فقد عرفه غير البزار، كأبي حاتم الرازي[4]، ووثقه أحمد، وقال ابن معين: صالح[5].

وقال ابن حبان: مسلم بن عبيد أبو ‌نصيرة الواسطي الدمشقي، كان يخطئ على قلة روايته[6].

قال الزيلعي [ت ٧٦٢]: "ولكن جهالة مثلِهِ [مولى أبي بكر] لا تضر؛ لأنه تابعي كبير، وتكفيه نسبته إلى أبي بكر الصديق، فالحديث حسن، والله أعلم"[7].

وهذه العبارة بحروفها قالها الحافظ ابن كثير [ت ٧٧٤] في تفسيره[8]، فلا أدري أيهما نقل عن الآخر، فالحديث حسنٌ عندهما.

قال الشيخ أبو إسحاق الحويني -حفظه الله-: "فهذا كلام غريب، ويتعجب أن يصدر من مثل الحافظ ابن كثير؛ لأنه مخالف لأصول أهل الحديث من أن مجهول الحال لا تثبت بخبره حجة، فضلاً عن مجهول العين، ومولى أبي بكر رضي الله عنه لا يُعرف مَن هو أصلاً، ونسبته لأبي بكر لا تنفعه، وإن تجوز الحافظ ابن كثير رحمه الله في هذا خلافاً للقاعدة، ومما يُستغرب أيضاً أن ينقل الشيخ العلامة المحدث أبو الأشبال رحمه الله قول الحافظ ابن كثير في تعليقه على تفسير الطبري ويقره عليه، ولا يتعقبه، وهذا من الأدلة الكثيرة على تسامح الشيخ أبي الأشبال يرحمه الله"[9].

قلت: بل هو الواقع عند أهل الحديث، كما قال السخاوي: "ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيفٌ، إلا الواحد بعد الواحد كالحارث الأعور والمختار الكذاب"[10].

وحسنه ابن مفلح الحنبلي في "الآداب الشرعية" وقال: "وهو حديث حسن، ومولى أبي بكر لم يسم، والمتقدمون حالهم حسن"[11].

وقد حسن الحديث أيضاً: ابن حجر[12]، والعيني[13] في شرحيهما على البخاري، فهؤلاء خمسة، فالقول بتحسين هذا الحديث له وجه.

وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في "الدعاء"[14]، قال: حدثنا محمد بن الفضل السقطي، ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، ثنا أبو شيبة، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس به.

ورجح الشيخ الألباني أن أبا شيبة المذكور في الإسناد هو: إبراهيم بن عثمان الكوفي قاضي واسط، بعدما كان يظنه الثقة: "أبا شيبة، سعدويه".

قال الشيخ: "ثم شككت في كون أبي شيبة هذا هو سعيد بن عبد الرحمن المذكور [سعدويه]، وذلك لأنهم وإنْ ذكروا له [لسعدويه] رواية عن ابن أبي مليكة؛ فإنهم لم يذكروا في الرواة عنه سعيد بن سليمان الواسطي، بل ذكره الحافظ المزي في الرواة عن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفي قاضي واسط، فترجح عندي أنه هو صاحب هذا الحديث لغرابته".

قلت: ولم يذكروا في مشايخ إبراهيم بن عثمان الكوفي قاضي واسط ابن أبي مليكة، فلم يستقم له على هذا المسلك!

فقال الشيخ الألباني بعد ذلك: "وعلى ذلك فإسناد الحديث ضعيف جداً؛ لأن إبراهيم هذا شديد الضعف متروك الحديث؛ كما قال النسائي وغيره، فهو لا يصلح شاهداً لحديث أبي بكر الصديق"[15].

وفي الحقيقة ليس كما ذهب إليه الشيخ الألباني بأن أبا شيبة هو: إبراهيم بن عثمان الكوفي قاضي واسط، إنما هو: يزيد بن معاوية أبو شيبة الخراساني؛ فإن ابن أبي الدنيا أخرج هذا الإسناد -والمتن بمعناه- وبَيـَّن نِسبة أبي شيبة، فقال: حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي، عن أبي شيبة الخراساني، ثنا ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "‌لا ‌صغيرة ‌مع ‌إصرار، ولا كبيرة مع استغفار"[16].

ويزيد بن معاوية أبو شيبة الخراساني، سكن مكة، وروى عن ابن أبي مليكة وغيره، وروى عنه: سعيد بن سليمان الواسطي وغيره، قال أبو حاتم: "منكر الحديث، ليس بالقوى"، وقال أبو زرعة: "صالح"، وقال الذهبي: "أتى بخبر منكر" فذكر هذا الحديث، فهو حديث منكر[17].

فالذي يظهر لي والله أعلم أن حديث أبي بكر حديثٌ حَسَنٌ.



[1] سنن أبي داود (2/ 625 ت الأرنؤوط): 1514.

[2] سنن الترمذي (5/ 523): 3559.

[3] مسند البزار = البحر الزخار (1/ 205).

[4] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 188).

[5] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 188).

[6] الثقات لابن حبان (5/ 399).

[7] تخريج أحاديث الكشاف (1/ 227).

[8] تفسير ابن كثير - ت السلامة (2/ 125).

[9] النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة (1/ 68 بترقيم الشاملة آليا).

[10] المتكلمون في الرجال (ص96).

[11] الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 87).

[12] فتح الباري لابن حجر (1/ 112 ط السلفية).

[13] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 277).

[14] الدعاء - الطبراني (ص507): 1797.

[15] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (9/ 458).

[16] التوبة لابن أبي الدنيا (ص132): 173.

[17] أفاده: أبو عمرو ياسر بن محمد فتحي آل عيد، في كتابه: فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود (18/ 414).

الأحد، 26 مايو 2024

حديث "لتمنت أُمَّتي أن يكون رمضان السنة كلها"

 حديث "لتمنت أُمَّتي أن يكون رمضان السنة كلها"



يتادول الناس مع قرب أو نهاية شهر رمضان حديث: (لو يعلم الناس ما في شهر رمضان من الخير لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها، ولو أذن الله للسموات والأرض أن تتكلما لشهدتا لمن صام رمضان بالجنة ...) 

فهل هذا الحديث صحيح ؟

هذا الحديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"[1]، وأبو يعلى في "مسنده"[2]، من حديث: جرير بن أيوب البجلي، عن الشعبي، عن نافع بن بردة، عن أبي مسعود به.

وقال ابن خزيمة: "إنْ صَحَّ الخبر؛ فإن في القلب من جرير بن أيوب البجلي!".

قلت: جرير بن أيوب: ضعيف باتفاق النقاد، بل قال عنه أبو نعيم الفضل بن دكين والدارقطني: كان يضع الحديث.

من أجل ذلك حكم عليه بالوضع جَمْعٌ من أهل العلم: كابن الجوزي[3]، والسيوطي[4]، وابن عراق[5]، والشوكاني[6].

فالحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو موضوع، أي: مكذوب، وهو شر أنواع الحديث.

قال السيوطي:

الْخَبَرُ ‌الْمَوْضُوعُ شَرُّ الْخَبَرِ //  وَذِكْرهُ لِعَالِمٍ بِهِ احْظُرِ



[1] صحيح ابن خزيمة (3/ 190): 1886.

[2] مسند أبي يعلى - ت السناري (7/ 396): 5273.

[3] الموضوعات لابن الجوزي (2/ 189).

[4] اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/ 85).

[5] تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة (2/ 153).

[6] الفوائد المجموعة (ص88).


السبت، 4 مايو 2024

حديث التيمم مع وجد الماء

 حديث التيمم مع وجود الماء 


قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم ‌يخرج ‌فيبول ‌ثم ‌يمسح ‌بالتراب، فأقول: إن الماء منك قريب، فيقول: "ما يدريني لعلي لا أبلغه".


خلاصة معنى الحديث:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يبول، ثم يسرع فيتيمم، مع أن الماء قريب منه، ولكنه يرفع الحديث بالتيمم خوفاً من حلول الأجل وهو على غير طهارة.

وينبني على هذا الحديث مسائل، من أهمها:

هل يجوز التيمم بحضرة الماء، وليس هناك ضرر باستعماله ؟

ظاهر الحديث يدل على الجواز.


تخريج الحديث:

أخرجه ابن المبارك في "الزهد"[1] قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش [بن عبد الله الصنعاني]، عن ابن عباس به.

ومن طريق ابن المبارك أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، قال: حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا ابن لهيعة به[2].

كذلك أخرجه عن موسى بن داود، قال: حدثنا ابن لهيعة به[3].

وأخرجه أحمد في "المسند"[4] والطبراني في "الكبير"[5] من حديث يحيى بن إسحاق السيلحيني، ثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن الأعرج، عن حنش به.

فزاد السيلحينيُّ في الإسناد "عن الأعرجَ"، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "زيادة يحيى بن إسحاق في الإسناد (عن الأعرج) بين عبد الله بن هبيرة وبين حنش الصنعاني أكبر الظن أنه خطأ، فإن الحديث رواه ابن المبارك عن ابن لهيعة كرواية موسى بن داود ليس فيه (عن الأعرج)".

والحديث مداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف الحديث، إلا أنها من رواية عبد الله المبارك، وقد قال عبد الغني بن سعيد الأزدي: إذا روى العبادلة عن عبد الله بن لهيعة فهو صحيح؛ ابن المبارك، وابن وهب، والمقري[6].

وهذه القاعدة غير متفق عليها ولا مسلَّمٌ بها؛ فبعضهم رأى أن كل ما في الأمر أن رواية العبادلة أحسن حالاً مما رواه غيرهم، وكلٌ ضعيف، لذا جاءت عبارة ابن حجر دقيقة في هذا الشأن، قال: "ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما"[7].

بل بعض الأئمة النقاد تركوا حديثه جملةً، يقول ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن سماع القدماء من ابن لهيعة؟ فقال: كله سواء الأول والآخر، لكن ابن وهب يتتبع أصوله فيكتب منها وكذلك عبد الله بن المبارك، أما البقية فكانوا يأخذون من تلك النسخ عنه[8].

وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: إذا كان مَن يروي عن ابن لهيعة مثل: ابن المبارك، وابن وهب يحتج به؟ قال: لا![9].

وما أحسن ما قاله ابن حبان: "وجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه؛ لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه"[10].

وسُئل أبو حاتم الرازي عن هذا الحديث فقال: "لا يصح هذا الحديث، ‌ولا ‌يصح ‌في ‌هذا ‌الباب حديث"[11].

وقد ضعفه: الحافظ العراقي[12]، والهيثمي[13]، وابن حجر[14]، وغيرهم.

تنبيه: قال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة": "وهذا إسناد ضعيف جداً؛ رجاله ثقات غير حنش هذا، واسمه الحسين بن قيس الرحبي، وهو متروك، كما في "التقريب"، وهو إنما يروي عن ابن عباس بواسطة عكرمة، فهو منقطع أيضا إلا أن يكون سقط من الناسخ أو الطابع قوله: "عن عكرمة"، والله أعلم"[15].

قلت: إنما هو حنش الصنعاني وليس الرحبي كما قال الشيخ الألباني، والصنعاني له رواية عن ابن عباس كما في "تهذيب الكمال"، وروايته عنه عند الترمذي وابن ماجه[16]، والعجيب أن الشيخ الألباني صحح هذا الحديث نفسه في السلسلة الصحيحة وذكر أن الرواي هو: هو ابن عبد الله الصنعاني[17].


درجة الحديث:

وعلى كل حال فالحديث ضعيف كما تقدم بيانه.



[1] الزهد والرقائق - ابن المبارك - ت الأعظمي (ص98): 292. وأخرجه الإمام أحمد من طريقه في "المسند": 2614، 2764.

[2] مسند أحمد (4/ 374 ط الرسالة): 2614.

[3] مسند أحمد (4/ 488 ط الرسالة): 2764.

[4] مسند أحمد (4/ 488 ط الرسالة): 2764.

[5] المعجم الكبير للطبراني (12/ 238): 12987.

[6] [تهذيب التهذيب (5/ 378)]

[7] تقريب التهذيب (ص319).

[8] [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/ 147)]

[9] [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/ 147)]

[10] [المجروحين لابن حبان (2/ 13)]

[11] العلل لابن أبي حاتم (1/ 542 ت الحميد).

[12] تخريج أحاديث الإحياء = المغني عن حمل الأسفار (ص1638)، و(ص1831).

[13] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 263) قال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف".

[14] المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (2/ 436).

[15] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (4/ 139).

[16] تهذيب الكمال في أسماء الرجال (15/ 157).

[17] سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/ 266).